فضل الصحابة في القرآنمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

    إن الصحابة – رضوان الله عليهم – هم خير خلق الله بعد النبيِّين والمرسَلين ؛ فقد اصطفاهم الله تعالى واختارهم لصحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - إذ كانوا أصفى الناس فِطرةً ، وأزكاهم قلبًا ، وأطيبهم نفسًا ، وأصدقَهم قولاً ، وأحدَّهم ذهنًا ، وأثقبهم فَهمًا ، وأفصحهم لسانًا ، وأوعاهم عقلًا .

لقد آمنوا بالله ورسوله ، وثبتوا على الإيمان رغم البلاء الشديد ، وصحبوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في السرَّاء والضرَّاء ، فنصروه وعزَّروه وآزروه ، وبذلوا في سبيل تبليغ رسالة ربهم النفس والنفيس ، وهاجروا وهجروا الأهل والأحباب ، والديار ، والأوطان .

لقد عاشوا لدين الله ، ونشر رسالته ، وإعلاء كلمته ، يحرصون على كل كلمة أو لفتة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبلِّغوها إلى العالمين ، فأدُّوا الأمانة ونشروا دين الله تعالى .

إنهم خير القرون في جميع الأمم ؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «خيرُ الناس قرْني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» روى البخاريُّ ومسلم .

وهم الواسطة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أمَّته ، فمنهم تلقَّت الأمةُ عنه الشريعة ، وهم الذين فتحوا البُلدان ونشروا الإسلام ، فدخل الناس في دين الله أفواجًا ، وقد مدحهم الله كثيرًا في القرآن ، وذكر فضائلهم ، وأخبر أنه يحبهم ورضي عنهم ؛ قال تعالى مُثنيًا عليهم : ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة : 100] .

وقال - تعالى - : ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح : 18] .

ووصفهم الله في كتابه في قوله تعالى : ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح : 29] .

أثبت الله تعالى الرسالة لرسوله – صلى الله عليه وسلم - : محمدٌ رسول من عند الله ، يدعو الناس إلى توحيد الله وطاعته ، والذين معه من أصحابه أشدَّاء على الكفَّار المحاربين لا يلينون لهم ، ولو كان فيهم آباؤهم وإخوتهم وذوو قرابتهم وصحابتهم ، ما داموا يحاربون دين الله ؛ فقد قطعوا هذه الوشائج جميعًا . رحماء بينهم ، بين الإخوة في الدين ، فالشدَّة لله ، والرحمة لله ، والحَمِيَّة لله ، والسماحة لله ، لا لحظوظ النفس والهوى ، فيشتدُّون على أعدائهم لله ، ويلينون لإخوتهم لله .

)تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) ، كأن هذه هي هيئتهم الأصلية الدائمة التي يراها الرائي حيثما رآهم ؛ فهم كثيرو الركوع والسجود والعبادة ، حتى لكأنهم يقضون زمانهم كله ركَّعًا سجَّدًا ؛ حيث إنهم (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا) ؛ فهذا كل ما يشغل بالهم ، وكل ما تتطلع إليه أشواقهم ، يبتغون من فضل الله ورضوانه ، ولا شيء وراء ذلك .

حتى ملامحهم صارت تثبت أثر العبادة الظاهرة على وجوههم ؛ (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية ، وليست هذه السيما هي النكتة المعروفة في الوجه كما يتبادر إلى الذهن عند سماع قوله تعالى : (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) ؛ بل المقصود هو أثر العبادة ، واختار لفظ السجود لأنه يمثل حالة الخشوع والخضوع والعبودية لله في أكمل صورها ؛ فهو أثر هذا الخشوع ، أثره في ملامح الوجه ، حيث تتوارى الخُيلاء والكبرياء ، ويحلُّ محلَّها التواضع النبيل ، والشفافية الصافية ، والوضاءة الهادئة ، التي تزيد وجه المؤمن وضاءةً وصباحة ونُبلاً ، وهذه الصورة الوضيئة ليست مستحدَثةً ؛ إنما هي ثابتة لهم في القَدَر ، فهي قديمة جاء ذكرها في التوراة ، وهي صِفَتُهم في بشارة عيسى – عليه السلام - بمحمد ومن معه ، أنهم (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) فهو زرع نامٍ قويٌّ ، يُخرج فرخه من قوَّته وخصوبته ؛ ولكن هذا الفرخ لا يُضعف العود؛ بل يشدُّه (فَآزَرَهُ) ، أو أن العود آزر فرخه فشدَّه ، (فَاسْتَغْلَظَ) الزرع ، وضخمت ساقه ، وامتلأت ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) لا معوجًّا ومحنيًّا ؛ ولكن مستقيمًا قويًّا سويًّا .

ووقعه في نفوس الزرَّاع أهل الخبرة هو وقع البهجة والإعجاب ؛ (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) ، ووقعه في نفوس الكفار على العكس ، وقع الغيظ والكمد ؛ (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) ؛ حيث إنهم غلاظ القلوب على الكفَّار ، أرقَّاء القلوب فيما بينهم ، يوادُّون المؤمنين ، ويعطفون عليهم ، ويلينون لهم ؛ كما قال تعالى : ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المائدة : 54] .

قال ابن عاشور : "في الجمع لهم بين هاتين الخَلَّتين المتضادتين ، الشدَّةِ والرحمة ، إيماءٌ إلى أصالة آرائهم ، وحكمة عقولهم ، وأنهم يتصرَّفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرُّف الحكمة والرُّشد ، فلا تَغلِب على نفوسهم مَحمَدة دون أخرى ، ولا يندفعون إلى العمل بالجبلَّة وعدم الرؤية"([1]) .

وقد أثنى الله على الذين جاؤوا من بعد الصحابة إذا كانوا يسألون الله لأنفسهم أن يغفر لهم ذنوبهم ، ويسألونه أيضًا أن يغفر لأصحاب نبيِّه ، فلا معصوم من الذنوب إلا الأنبياء ، ولا أحد يستغني عن رحمة الله ومغفرته ؛ قال الله تعالى : ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر : 8- 10] .

ونحن مع أهل السنَّة والجماعة ، نحبُّ أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ونفضِّلهم على جميع الخلق بعد الأنبياء ؛ لأنَّ محبتهم من محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله ، وهم يُثنون على الصحابة ، ويتَرَضَّون عنهم ، ويستغفرون لهم .

قال ابن كثير : "كلُّ من اقتفى أثر الصحابة ، فهو في حُكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد فعل"([2]) .

 

 

([1]) "التحرير والتنوير" (26/ 205) .

([2]) "تفسير ابن كثير" (7/ 363) .