الحياء حلية المؤمنينمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومَنْ ولاه ، وبعد :

إن الحياء هو رأس الفضائل والشِّيم والأخلاق ، وعماد شُعب الإيمان ، وبه يتم الدين ، وهو دليل الإيمان ، ورائد الإنسان إلى الخير والهدى ، وإن الحياء خُلُق يبعث على ترك القبيح ، ويمنع من التقصير في حقٍّ من الحقوق ، وهو خُلُق جميل يدعو إلى التحلِّي بالفضائل ، والبُعد عن الرذائل .

والحياءُ من الحياة ، ومنه الحيا للخِصْبِ والمطر ، وقِلَّةُ الحياءِ من موت القلب والروح ، وكلما كان القلبُ أحيا ، كان الحياء أتمَّ .

 وقد ذكره النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أحاديثَ كثيرةٍ ، تدلُّ على مكانته بين المكارم والشيم ؛ منها :

قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ» رواه البخاري ومسلم .

وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» ، أَوْ قَالَ : «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ» رواه مسلم .

وحياء المؤمن يدل على كمال إيمانه ، وحُسْن أدبه ، ونقاء سريرته ، ؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «والْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» رواه البخاريُّ ومسلم .

وقد مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ - وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاء ، فَقَالَ له : «دَعْهُ ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ» رواه البخاريُّ ومسلم .

قال ابن القيم – رحمه الله – : "ثمَّ تَأمل هَذَا الْخُلق الَّذِي خصَّ بِهِ الإنسان دون جَمِيع الْحَيَوَان ، وَهُوَ خُلق الْحيَاء ، الَّذِي هُوَ من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا ، وأكثرها نفعًا ؛ بل هُوَ خَاصَّة الإنسانية ، فَمن لَا حَيَاءَ فِيهِ ، لَيْسَ مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم وَالدَّم ، وصورتهم الظَّاهِرَة ، كَمَا أنه لَيْسَ مَعَه من الْخَيْر شَيْء ، وَلَوْلَا هذا الخُلق ، لم يُقْرَ الضَّيْف ، وَلم يُوفَ بالوعد ، وَلم يؤدَّ أمانة ، وَلم يقْض لأحَدٍ حَاجَة ، وَلَا تحرَّى الرجل الْجَمِيل ، فآثره ، والقبيح ، فتجنَّبه ، وَلَا ستر لَهُ عَورَة ، وَلَا امْتنع من فَاحِشَة ، وَكثير من النَّاس لَوْلَا الْحيَاءُ الَّذِي فِيهِ ، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترضة عَلَيْهِ ، وَلم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا ، وَلم يصل لَهُ رحمًا ، وَلَا برَّ لَهُ والدًا ؛ فَإِن الْبَاعِث على هَذِه الأفعال ، إِمَّا دينيٌّ ، وَهُوَ رَجَاء عَاقبَتهَا الحميدة ، وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ ، وَهُوَ حَيَاء فاعلها من الْخَلق ، قد تبيَّن أنه لَوْلَا الْحيَاءُ إِمَّا من الْخَالِق اَوْ من الْخَلَائق لم يَفْعَلهَا صَاحبها "[1] .

ولكن هل الحياء غريزيٌّ أو مكتسب ؟

قال ابن رجب الحنبليُّ – رحمه الله - : "والحياءُ نوعان ؛ أحدهما : غَريزيٌّ ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه ، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل ، ويحثُّه على فعل الجميل ، وهو من أعلى مواهب الله للعبد ، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل ، والكَفِّ عن القبيح ، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان . . . والنوع الثاني : أن يكون مُكتَسَبًا ، إما من مقام الإيمان ؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة ، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه ، أو من مقام الإحسان ؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه ؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان "([2]) .

ويكفي الحياء شرفًا أنه من صفات الله تعالى ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا ، أَوْ خَائِبَتَيْنِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْن مَاجَه وصححه الألبانيُّ .

قال ابن القيم - رحمه الله - : "وأمَّا حياءُ الربِّ تعالى من عبده ، فنوعٌ آخَر ، لا تُدركه الأفهام ، ولا تُكيِّفه العقول ؛ فإنه حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجودٍ ، فإنه تبارك وتعالى حيِيٌّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يَرُدَّهما صِفرًا ، ويستحيي أن يُعذِّب ذا شَيبةٍ شابت في الإسلام ، وكان يحيى بن معاد يقول : سبحان من يُذنب عبده ويستحيي هو . وفي أثر : من استحيا من الله استحيا الله منه"[3].

والحياء من خُلق النبيِّ - صلى الله عليه وسلم – وصفاته ؛ فقد وصفه أبو سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - بقوله : «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ» رواه البخاريُّ ومسلم .

والحياء من خُلُقِ الملائكة والأنبياء : قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في عثمان - رضي الله عنه - : «أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ؟!» رواه مسلم .

وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا ، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ» رواه البخاريُّ .

وأول الحياء وأوْلاه : الحياءُ من الله تعالى ، وهو ألَّا يراك حيث نهاك ، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة ، ومُراقبة له حاصلة ، وهي المعبَّر عنها بقوله : «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه ؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»([4]) .

وهو ما أراده النبيُّ r بجعله من شُعَب الإيمان ؛ كما روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r : «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ» . قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ : «لَيْسَ ذَاكَ ؛ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى ، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى ، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ» رواه الترمذيُّ، وحسَّنه النوويُّ والألبانيُّ.

 

ومن أعظم فضائل الحياء أنه يُفضي إلى جنةٍ عَرْضُها السماوات والأرض ؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» رواه أحمد والترمذيُّ وصححه الألبانيُّ .

والحياء زينة الأخلاق : لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : «مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ، وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ» رواه أحمد والترمذيُّ وابن ماجه، وصححه الألبانيُّ .

والحياء يعصم المرء من المعاصي والمنكرات ، ويحمله على الاستقامة والطاعة ، وبدون الحياء يغرق الناس في أوحال المعاصي والمنكرات ؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى : إِذَا لَمْ تَسْتَحِ ؛ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» رواه البخاريُّ .

قال الشاعر :

وَرُبَّ قبيحةٍ ما حال بينِي = وبين ركوبها إلاَّ الحياءُ

فكان هو الدواءَ لها ولكن = إذا ذهب الحياءُ فلا دواءُ

 

[1] "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277) .

([2]) انظر : "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102) .

[3] "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 261) .

([4]) "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (1/ 218) .