الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لقد أرسل الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم – رحمة للعالمين ، من آمَن به أو لم يؤمن به على السواء ؛ رحمةً للبشرية جمعاءَ ؛ قال تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء : 107].
قال القرطبيُّ - رحمه الله - "تفسير القرطبيِّ" (11/ 350): "قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : كان محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - رحمةً لجميع الناس ، فمن آمن به وصدَّق به ، سَعِد ، ومن لم يؤمن به ، سَلِم مما لحق الأمم من الخسف والغرق".
وقال الشنقيطيُّ - رحمه الله – "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (4/ 250 ، 251) : "قَوْلُهُ تَعَالَى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} : ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إِلَى الْخَلَائِقِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُسْعِدُهُمْ وَيَنَالُونَ بِهِ كُلَّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنِ اتَّبَعُوهُ ، وَمَنْ خَالَفَ وَلَمْ يَتَّبِعْ فَهُوَ الَّذِي ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى. وَضَرَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا مَثَلًا ، قَالَ : لَوْ فَجَّرَ اللَّهُ عَيْنًا لِلْخَلْقِ غَزِيرَةَ الْمَاءِ ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ ، فَسَقَى النَّاسُ زُرُوعَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ بِمَائِهَا ، فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ بِذَلِكَ ، وَبَقِيَ أُنَاسٌ مُفَرِّطُونَ كُسَالَى عَنِ الْعَمَلِ ، فَضَيَّعُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ - فَالْعَيْنُ الْمُفَجَّرَةُ فِي نَفْسِهَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ ، وَنِعْمَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ؛ وَلَكِنَّ الْكَسْلَانَ مِحْنَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ حَرَمَهَا مَا يَنْفَعُهَا، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}[إبراهيم : 28]".
يقول الشاعر عبدالحميد ضحا:
فَإِذَا بِرَبِّ الْكَوْنِ يُرْسِلُ رَحْمَةً = نُورًا يُبِيدُ الظُّلْمَ ثُمَّ يُدَامُ
كَالْفَجْرِ يَخْرُجُ مِنْ ظَلَامٍ دَامِسٍ = كَالرُّوحِ تُحْيِي الْمَيْتَ وَهْوَ رِمَامُ
وُلِدَ السَّنَا فَالْأَرْضُ ضَاءَتْ وَالسَّمَا = وَالْكُفْرُ بَاكٍ قَدْ أَتَاهُ حِمَامُ
وُلِدَ الْهُدَى فَالْكَوْنُ بُشِّرَ بِالنَّدَى = وَالْحَقُّ بُشْرَاهُ أَتَاهُ غَمَامُ
وإن رحمة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لم تكن من مكتسَبات النبوَّة ؛ وإنما كانت مطبوعةً فيه ؛ فهذه أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - تصفه قائلة : «كَلَّا وَاللهِ مَا يُخْزِيك الله أَبَدًا ؛ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» رواه البخاريُّ ومسلم .
فهذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الرسالة ؛ فكيف به يكون بعد الرسالة ؟!
حسبك ما وصف الله تعالى به نبيَّه في كثير من آيات القرآن، يمتنُّ الله تعالى على عباده بإرساله - صلى الله عليه وسلم – رحمةً لهم ؛ قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة : 2].
وقال تعالى : {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة : 16].
وقال تعالى : {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [التوبة : 128].
ورحمته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن مخصوصة بالمؤمنين فقط ؛ وإنما كانت للبرِّ والفاجر ، والمؤمن والمنافق ، والصديق والعدوِّ ، فقد كان بعثه - صلى الله عليه وسلم - أمانًا للناس أجمعين ؛ فوجوده بينهم كان حفظًا لهم من الهلاك ؛ يقول الله تعالى : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال : 33] .
فأما رحمته بالمؤمنين ، فهي ظاهرة ، وتتجلَّى في قوله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ ، أُعَلِّمُكُمْ" رواه أبو داود.
وقد شَمِلت رحمته - صلى الله عليه وسلم - أعداءه من المشركين ، فوسط ما كان يلاقيه منهم - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ؛ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» رواه مسلم.
وكان يوصي بالرحمة للناس جميعًا ؛ فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ» رواه البخاريُّ ومسلم.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» رواه أبو داود والترمذيُّ بزيادة وقال : حديث حسن صحيح.
ويوم فتح مكة ، لما قال سعدُ بنُ عبادةَ ، وهو يرفع راية الجيش : اليوم يوم الملحمة ، فأخذ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منه الراية ، وأعطاها لولده قيس ، وقال : «بل اليوم يوم المرحمة» ، وأمر الجيش ألا يقاتل إلا من قاتله ، فلما أظهره الله عليهم ، تجلَّت رحمته في العفو عمن آذَوه ولم يكونوا يرقبون فيه ولا في المؤمنين إلًّا ولا ذِمَّة ؛ فقال لهم : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف : 92].
وقد شَمِلت رحمته الحيوان والجماد :
فمن رحمته بالحيوان ما رواه عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا ، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ ، فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ : «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟» قُلْنَا : نَحْنُ. قَالَ : «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ.
ومن رحمته بالجماد :
حنين جذع النخلة وشوقه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا تركه وصَعِد المنبر ؛ فعَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ ، قَالَ : فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لَهَا غُلاَمٌ نَجَّارٌ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا ، أَفَلاَ آمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ لَكَ مِنْبَرًا تَخْطُبُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَاتَّخَذَ لَهُ مِنْبَرًا ، قَالَ : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، قَالَ : فَأَنَّ الْجِذْعُ الَّذِي كَانَ يَقُومُ عَلَيْهِ كَمَا يَئِنُّ الصَّبِيُّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : «إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ» رواه أحمد.
مَلَأَ الْكَوْنَ رَحْمَةً فَرَجَاهُ = جَمَلٌ نُصْرَةً وَيَهْمِي دُمُوعَا
كَيْفَ لِلْجِذْعِ أَنْ يَحِنَّ اشْتِيَاقًا = وَقُلُوبٌ كَالصَّخْرِ سَدًّا مَنِيعَا؟!
صلَّى الله وسلَّم على الرحمة المهداة للعالمين.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.