حمل مسؤوليات الدعوة: بعد الثانوية خير أو بعد الجامعة؟مقالات

عبداللطيف سعيد أولاومي

التمهيد:

الدعوة في اللغة والاصطلاح:

فمن موجب هذه المقالة التعريف بالدعوة لغة وإصلاحًا.

إن كلمة الدعوة مصطلح إسلامي، وهناك علاقة وثيقة بين مدلول هذا اللفظ في الأصل الّلغوي وبين استعماله كمصطلح.

معاني الدعوة في القرآن الكريم:

ورد لفظ الدعوة في القرآن الكريم للدلالة على معان متعددة، منها:

  1. معنى الطلب: نحو قوله تعالى: {لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} بمعنى لا تطلبوا اليوم هلاكًا وويلًا كثيراً.
  2. معنى النداء: نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} أي فنادوهم فلم يستجيبوا لهم.
  3. معنى السؤال: نحو قوله تعالى حكاية عن بني إسرائيل: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} أي اسأل ربك يبين لنا ما لون البقرة التي أمرنا بذبحها.
  4. معنى الحث والتحريض على فعل شيء، نحو قوله حكاية عن مؤمن آل فرعون: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} بمعنى أنه ليس من العدل والإنصاف أن أحثكم وأحرضكم على فعل ما من شأنه نجاتكم في الدنيا والآخرة وأنتم تحرضونني على فعل ما من شأنه هلاكي.
  5. معنى الاستغاثة: نحو قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
  6. معنى الأمر: نحو قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
  7. معنى الدعاء: نحو قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} بمعنى توسلوا إلى الله بالدعاء وتقربوا إليه به، فإن كلًا من هذه المذكورة في شأن كلمة الدعوة يهدف كلها إلى أصل واحد وهو النداء أو الطلب.

 

  • فالنداء: هو طلب الحضور والمجيء سواء لأمر حسّي أو معنوي.
  • والسؤال: هو طلب العلم بشيء لم يكن معلومًا لدى السائل.
  • والتحريض والحث: هو طلب إتيان فعل غير مرغوب فيه عند المخاطب.
  • والاستغاثة: طلب رفع ضر واقع على المستغيث.
  • والأمر: طلب إتيان الفعل مطلقًا.
  • والدعاء: هو الطلب من الله سبحانه وتعالى.

 

إذن فالدعوة من خلال التعريفات الواردة هي الطلب من الناس الدخول في طاعة الله تبارك وتعالى بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأما الدعوة في التعريف الاصطلاحي فهي جمع الناس إلى الخير ودلاتهم على الرشد بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

أو هي قيام الدّاعية المؤهل بإيصال دين الإسلام إلى الناس كافة (أمة الدعوة وأمة الاستجابة) وفق الأسس والمنهج الصحيح وبما يتناسب مع أصناف المدعوين ويلائم أحوال وظروف المخاطبين.

معاني الثانوية والجامعة:

إن كلمة الثانوية هي بمعنى متابعة أو إضافة أو فرع أو هي اسم منسوب إلى ثان، أو هي ما يلي الأول في الدرجة والمرتبة، وإذا قيل أمر ثانوي بمعنى ما يجيئ بعد غيره في الأهمية.

وأما في الاصطلاح المدرسي فهي أي الثانوية: مرحلة تعليمية بعد الإعدادية في البلاد العربية أو المتوسطة في بعض آخر، وتعد للتعليم الجامعي، وإذا قيل مدرسة ثانوية تعني مدرسة تعد للتعليم الجامعي أو بعبارة أوضح الثانوية من مراحل التعليم هي التي تقوم بتزويد الطالبين بمعرفة اللغات وآدابها قديمها وحديثها وبمبادئ العلوم الرياضية والطبيعية والكيمياوية ونحوها وبتجهيزهم للمرحلة الدراسية الجامعية.

وأما الجامعة فكلمة مؤنثة مذكرها جامع وتجمع على جوامع أو جامعات ومعناها في اللغة: الغلّ بجمع اليدين إلى العنق. وفي الاصطلاح المعاصر تعني مجموعة معاهد علمية تسمى كليّات، تدرس فيها الآداب والفنون والعلوم.

ولكي يكون معنى الجامعة أوضح وأدق من السابق نأتي بهذا: الجامعة كلمة مشتقة عربية من كلمة الاجتماع أي الاجتماع حول هدف ألا وهو هدف التعليم والمعرفة.

والجامعة إذن هي مؤسسة للتعليم العالي والأبحاث، وهي تعطي شهادات أو إجازات أكاديمية لخرّيجيها وهي توفر دراسة من المستوى الثالث والرابع (كاستكمال لدراسة المدرسة الابتدائية والثانوية) وهي أيضًا مكان يجتمع فيه الناس للعلم.

انطلاقة مما سبق أراني في ثنايا هذه السطور كلها قد حاولت محاولة على قدر تمكني وعلى حسب تطلعي على الكتب والمعاجم إيراد معان مستفادة من الناحية اللغوية والاصطلاحية لكل من كلمة "الدعوة" و"الثانوية" ثم "الجامعة" بأسلوب معرفي واضح نستطيع أن نتعرف من خلالها على الكلمات المذكورة بالتحديد والاختيار اللغوي والاصطلاحي.

مسؤولية الدعوة.. من يتولاها؟

فبالإشارة إلى موضوع هذه المقالة نقول إنه من المعروف إسلاميًّا أن الدعوة لا بد من قائم بها، أي أن من شروط الدعوة القيام بواجبها وحمل لوائها في الآفاق بعد العلم بها، وتبليغ الدعوة في كل زمان ومكان من علامة المسلم الحقيقي، إذ لا يعد العالم المسلم عالمًا ومسلمًا حقيقيًّا إلا إذا عني عناية كليّة أو جزئية بحمل رسالات الإسلام وإيصالها إلى المسلمين وغيرهم عملًا بقوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وبقوله:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.

فنستنبط من الآيتين مدى حاجة الإنسان إلى هدى ربه في كل شيء أو شأن وليكون بصيرًا في أمور دينه ودنياه من قبالة الدعوة، وقد أشارنا أستاذ الأساتذة العلامة الشيخ آدم عبدالله الإلوري إلى هذا مستنبطًا ذلك من الإمام ابن حزم في كتابه "الفصل في الملل والنحل" ما نصّه: إن الإنسان لا يمكن أن يهتدي إلى معرفة العقاقير لعلاج الأمراض ولا إلى معرفة نجوم السماء ودورانها ولا إلى اللغات وحروفها وإلى أدوات الحرث والحصاد والطحن والعجن ولا إلى تربية المواشي الداجنة ولا إلى استخراج الأدهان ولا إلى البناء وهندسته، كل ذلك وأضعاف أمثاله لا يمكن أن يهتدي إليه الإنسان إلا بالتعليم، فوجب أن يكون هناك إنسان علّمه الله ذلك ابتداء دون معلّم ولكن بوحي حققه عنده.

ففي قول الإمام ابن حزم دلالة على أن الإنسان لا يهتدي إلى شيء إلا بوجود هاد بصير قد تعلّم ذلك أو علّمه الله، وهذا إذًا قاعدة مطردة منذ زمن قديم في أنه لا يمكن التوغل في علم من العلوم أو التدخل في فن من الفنون إلا بعد العلم به أو الخبرة منه أو بمصاحبة شخص متضلع في ذلك العلم والفن.

والدعوة علم له أسسه ووسائله ومؤهلاته، كل هذا يجب أن يُعرف قبل الحوض في غمار وغاها، ولا يحوض فيها إلا من كان موسوعيًا كبيرًا وعبقريًا قديرًا في العلم وخاصة في الشريعة الإسلامية وما يتعلق بها من العلوم والمعارف.

رجال الدعوة إلى الله وأصحابها:

اتضح فيما سبق أنه لا يتصدى لعملية الدعوة إلا رجالها المتضلعون في معارفها وهؤلاء الرجال هم الذين سبق لهم العلم والمعرفة في هذا الميدان، وهم الذين يتولون مسؤوليتها أولًا وأخيرًا ويقومون بأمورها في كل زمان ومكان، ولا جدال في ذلك لأنه قضية مسلّم بها، إذ أولوية العلم مقدمة على القول والعمل وإن كان ليس كل من اتخذ صفة العلم والمعرفة يستطيع أن يقوم بالدعوة إلى الله، أي ليس كل من يستطيع أن يقرأ من الكتب بفصاحة وإعراب يتصدى للدعوة، إذ للدعوة مقومات وصفات وأساليب كلها يجب أن تتوفر في الداعية، وإذا توفرت جميع هذه الخصائص في شخص فهو مؤهل للدعوة بكل معنى الكلمة وهذا بغض النظر عن الشهادة التي يحملها ذلك الشخص ما دام تتوفر فيه ما تؤهله لحمل هذه المهنة الدعوية فهو أهل بها.

ولعل مما ينفع كثيرًا في هذا الباب ما أجاب بها الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله عندما سئل عمّن هو يقوم بالدعوة إلى الله وهذا نصه:

الحمد لله.. إذا كان الإنسان على بصيرة فيما يدعو إليه فلا فرق بين أن يكون عالمًا كبيرًا يشار إليه أو طالب علم مجد في طلبه أو عاميًا لكنه علم المسألة علمًا يقينًا.

فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((بلغوا عني ولو آية)) ولا يشترط في الداعية أن يبلغ مبلغًا كبيرًا في العلم، لكنه يشترط أن يكون عالمًا بما يدعوا إليه، أما أن يقوم عن جهل ويدعو بناء على عاطفة عنده فإن هذا لا يجوز.

ولهذا نجد الإخوة الذين يدعون إلى الله وليس عندهم من العلم إلا القليل نجدهم لقوة عاطفتهم يحرّمون ما لم يحرمه الله ويوجبون ما لم يوجبه الله على عباده وهذا أمر خطير جدًا لأن تحريم ما أحل الله كتحليل ما حرم فهم مثلًا إذا أنكروا على غيرهم تحليل هذا الشيء فغيرهم ينكر عليهم تحريمه أيضًا لأن الله جعل الأمر سواء فقال الله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ** مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

الخاتمة:

إننا إذا سلمنا الجدل لما أسلفنا القول فيه في السطور السابقة نرى أنه قد بان جليًا واتضح وضوح الشمس في رابعة النهار أن للدعوة رجالًا، وأن هؤلاء الرجال هم الذين توفرت لديهم ما تؤهلهم وتجعلهم أهلًا لهذه العملية الجادة، هذا بقطع البصر وغض النظر عن نوعية الشهادة التي يحملها هؤلاء الرجال، بل إن الشهادة لا تعتبر إذا كان صاحبها لا يطيق أن يدافع عنها في سوق العمل والإنتاج، وهذا يشبه قصة رجل حدث أنه أخذ عصا الترحال إلى القرى ليمارس الدعوة بعد أن قد نال إجازة في التعليم والدعوة ولما وصل إليها واستقر بأرضها أدرك أهلها يحملون معهم السكين والفأر إلى المسجد كلما سمعوا النداء إلى الصلاة ولما رأى الرجل هذا لم يتمالك نفسه حتى انفجر قائلًا: يا أهل القرية أنتم وأمراؤكم مجانين بحملكم السكين والفأر، فثار أهل القرية غاضبين عليه ومكرهين له ورفعوا أمره إلى الملك فأمر الملك بعزله ومنعه من المسجد للتعليم والدعوة بعد، وكان على هذه الحال حتى ألجأه أمر إلى أحد أساتذته في المدينة وقص عليه قصته مع أهل القرية فسأله الأستاذ: هل معهم الدليل في ذلك؟ فقال لا دليل لهم بالنسبة إليه لأن الكتاب والسنة لم ينصّا على ذلك، وتفكّر الأستاذ مليًا وقال له عد إلى القرية تجد أن لهم حجة يعتمدون عليها في هذه القضية.. ولما وصل إليهم مرة ثانية أدركم على الحال نفسه وطلب منهم الدليل فيما كانوا عليه فقالوا: إنا قرأنا في كتابنا ما نصّه "أحضروا الصلاة بالسكين والفأر" فسرعان ما رأى هذا الرجل ما في الكتاب أدرك أن خطأ أهل القرية من كتابهم لا من عقلهم ذلك لأن لديهم أصلًا واحدًا من الكتاب ومنه يقرأ جميع أهل القرية منذ عهد قديم وقد تبلل الكتاب وتمزق حتى قد سقطت منه بعض الحروف لكثرة الرد ومرور الأيدي عليه دائمًا.. ومن هنا ألهم هذا الرجل المعلم الداعي أسلوبًا متجددًا مه أهل الخطأ والضلال، فجدد لهم التعليم والنقل وعلمهم أن صحيح ما في الكتاب هو: احضروا إلى الصلاة بالسكينة والوقار. فبالنظر الجلي إلى القصة نلاحظ وندرك تمامًا أن هذا الرجل العالم الداعي على الرغم من إجازته وشهادته في الميدان فشل في المرة الأولى لعدم إجادته الأسلوب الجيد في التعامل مع الجاهلين المخطئين، وأنه لو لا مراجعته أحد أساتذته ممن له طول الممارسة وحسن الأداء والأسلوب الجيد والفكر الصائب لدام فاشلًا في دعوته، ولتمادى أهل القرية في ضلالهم مرّ السنين وكرّ الأيام مع وجود عالم يبينهم.

ومن هنا أطلق سراح القول قائلًا إنه لا فرق بين أن يتحمّل حامل الشهادة الثانوية مسؤولية الدعوة وبين أن يتحملها حامل الشهادة الجامعية؛ إذا توفرت في كل منهما - طبعًا ودراسة - صفات الداعية ومقوماته وأساليبه على السواء، فالمهم الفهم والأسلوب والإجادة، نسأل الله العافية من الفشل والفقر والجهل.

قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.


المصدر: مجلة النور: إسلامية عربية تصدر من مركز نور الإسلام للتعليم العربي الإسلامي - أغيغي، لاغوس، نيجيريا (العدد التاسع 1437هـ).