معالم الخطاب الشرعي في قضية المرأةمقالات

بدر الثوعي

أولًا: الخطاب الشرعي الرشيد في باب المرأة خطاب متكامل، ويحوي العناصر الأربعة:

1- التعريف: وذلك بتبيان أصل الخلقة، ومواطن الاتفاق والاختلاف مع الرجل جسديّا ونفسيًا واجتماعيًا، ولوازم ذلك شرعيًا عند الحديث عن الواجبات والحقوق.

2- التشريف: وذلك بالحث على إكرام المرأة، وبثّ روح الإيمان بها، وتثبيتها، وتعبئة داخلها بروح المعركة ضد أي وافد مضاد للدين، ومدح الثابتات التقيات في ظل التساقط.

3- التكليف: وذلك بتوضيح مواطن العبادات الواجبة عليها، فالشريعة لا تطفّل المرأة وتخرجها عن دائرة التكليف، بل عليها أوامر ونواهي ربانية بوصفها مسلمة بالعموم، امرأة بالخصوص.

4- التخفيف: وذلك بتحرير مواطن رخص الشريعة للمرأة في أحكام الجهاد والجماعات والنفقات وسائر العبادات والمعاملات، فثَم مسائل فقهية تكون واجبة بحق الرجل، غير واجبة بحق المرأة مراعاة للمعطيات الجسدية والنفسية التي وهبها الله لها.

وهذا الشأن المتكامل ليس في باب المرأة فقط، فأنت حين تقلب نظرك تجد الأمر في باب الجهاد مثلًا نفس التركيبة بنفس الوزان؛ فالخطاب بشأن الجهاد له وجه تعبوي تحريضي عاطفي، وله وجه فقهي يتعلق بأحكام المعارك والغنائم والصلح، ووجه ثالث يتعلق بالعقوبات ومدارات أحكام الولاية فيها؛ ولا ينكر حين يستخدم وجه في سياق معين، كما لا يعترض على السلسلة بأن بها حديثًا تشريفيًا عن دور المرأة الرسالي ويطالب بتجريد السلسلة لحديث التكليف فقط؛ ثَمّ أوجه تعريف، وتشريف، وتخفيف، وتكليف؛ كما قدمت.

ففي سنن النسائي وغيره أتي بطعامٍ في صَحفة لأم سلمة إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، فجاءت عائشةُ مُتَّزِرةً بكِساءٍ، ومعها فِهرٌ، ففلَقتْ به الصَّحفةَ، فجمع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين فلقتَيِ الصَّحفةِ، ويقولُ : “كُلوا غارت أمُّكم مرَّتَيْن، ثمَّ أخذ رسولُ اللهِ صحفةَ عائشةَ، فبعث بها إلى أمِّ سلمةَ، وأعطَى صحفةَ أمِّ سلمةَ عائشةَ” [1]

فتأمل معي:

1- تعريف: غارت

2- تشريف: أمكم

3- تكليف: تغيير الصحفة المكسورة بأخرى من عندها

4- تخفيف: مجمل النظر في دوافع الغيرة، مع فرض البديل دون تقريع ولوم.

فهذا ليس خاصًا بجنس دون آخر كما ترى.

ثانيًا: كثرة التماسّ بالمشكلات والاعتراضات يُعطب حساسات التوازن؛ فمن انغمس في باب المشكلات الاجتماعية أورثته هذه المعايشة لينًا قد يجاوز حده، فيخفت صوته بمحكمات الشريعة تحت صرخات المظلوميات -التي لا تُنكر-، وعلى الطرف الآخر ترى من كان منتصبًا لمجابهة النسوية أخذته روح المعارك إلى غلظة في غير موضعها، وخلّفت به سوء ظنّ بالمؤمنات، وصار الملف تحفه أسلاك كهربائية من الاحترازات وضبط الألفاظ وتصيد كل ما يمكن توجيهه حطبًا في نار المعركة؛ وقد تنبه الفقيه الذكي ابن دقيق العيد إلى مسلك الترجيح النفسي بسبب الغرق في الجزئيات فقال:

“واعلم أَن تقديمَ أرجح الظنين عند التقابُل هو الصوابُ إن شاء الله، غير أنا نراهم إذا انصرفوا إلى النظر في الجزئيات يخرج بعضهم عن هذا القانون، ومن أَسباب ذلك اشتباهُ المَيلِ الحاصل بسبب الأدلة الشرعية بالميل الحاصل عن الإِلْف والعادة والعصبية، فإن هذه الأمورَ تُحدِثُ للنفس هيئة وملكَةً تقتضي الرجحانَ في النفس بجانبها، بحيث لا يشعر الناظرُ بذلك، ويتوهم أنه رجحانُ الدليل” [2]

فليس كل طرح لملف المرأة يجب أن يكون في باب التكليف والرد على الشبهات النسوية، ومن اللطيف أن أحدهم بنى ردّه على عبارة مكذوبة للعز بن عبدالسلام مفادها: مَن نزل بأرض تفشى فيها الزنا فأفتى الناس بحرمة الربا فقد خان؛ وهذا ينبيك عن مبلغ الهشاشة العلمية؛ فليس للعبارة أثر في مؤلفات العز -حسب علمي- بل هي من تجليات ثقافة الاقتباسات المكذوبة، والتقميش دون تفتيش.

ثالثًا: أصل مراعاة البعد النفسي في أسلوب تقرير الأحكام لا ينكر، ولذا شواهد من المدونة الفقهية أكتفي بمثالين:

المثال الأول: نص جمعٌ من الفقهاء على جواز تأخير الحدود في حال الغزو، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : “لا تُقطع الأيدي في الغزو” [3]

وروي عن جمع من الصحابة هذا المعنى؛ وعللوا ذلك بخشية أن يلتحق بالعدو من قريب؛ ففي سنن سعيد بن منصور أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى الناس :” لا يجلدنّ أمير جيش ولا سرية رجلًا من المسلمين حدًا وهو غازٍ، حتى يقطع الدرب قافلًا؛ لئلا تحمله حمية الشيطان فيلحق بالكفار” [4]

وقال الترمذي في سننه: “والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي، لا يرون أني يقام الحد في الغزو بحضرة العدو، مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو” [5]

وللإمام ابن القيم عبارة مشابهة وقرّر نفس العلة [6]

المثال الثاني: صنيع الفقهاء في كراهة (تكرار) تلقين الميت الشهادتين لذات السبب؛ قال النووي – رحمه الله-: “وكرهوا الإكثار عليه والموالاة لئلا يضجر بضيق حاله وشدة كربه فيكره ذلك بقلبه وينطق بما لا يليق” [7]

فهذا المعنى لا يدل على ترك الإنكار على المرأة فيما تقع فيه، لكن أصل مراعاة النفوس عند هجمة الأفكار وتلطيف العبارة خشية اللحاق بمنظومات مخالفة للشريعة متقرر، وأرى أن على من تصدر لهذا الباب وغيره أن يقرر الأحكام دون مناكفات، ويبين المحاسن والتعليلات في ماكان من قبيل معقول المعنى، ويثور الإيمان في النفوس لاستقبال التكاليف التعبدية بتسليم واطمئنان؛ وهذا أيضًا ليس مخصوصًا بالنساء بل عام بحسب السياق.

رابعًا: يقرر الأصوليُّون أنَّ الجمع الذي لم تظهر فيه علامة التَّذكير والتَّأنيث يعم الذكور والإناث؛ مثل لفظ “النَّاس”و”الإنس” و”البشر” ونحوها من الألفاظ التي تشمل جميع الذكور والإناث بأصل الوضع لهذه الألفاظِ في اللغ، وليس لعلامة التَّذكير أو التَّأنيث مدخلٌ في هذا الشُّمول، فيدخل في مفهومها ودلالتها الذُّكور والإناث. [8]

فالله سبحانه خاطب الجميع ذكورًا وإناثًا بوصفهم عاملين “فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض”

فلا معنى لإخراج النساء من عموم أصل خطاب التكليف بالعمل لدين الله -حسب الضوابط- إلا لمخصص، ومن قصر دور المرأة على واجب دون آخر ففي تقريره وهن ودخَن.

ولا أفهم قول من يقول أن ذكر عموم الخطاب التكليفي للجنسين هو من قبيل الاستثناءات؛ إلا أن يكونوا ممن ينطلقون من الواقع للنص لا العكس.

خامسًا: من مسالك التفقه الأهوائية “ترتيب المقدمات والبراءة من النتائج”، فمن قرر هذا النفَس المسعور تجاه أي حديث حقوقي بوصم صاحبه بالنسوية والتدثر ليس بريئًا مما يخلفه من بذاءات واستسهال للقذف والتكفير؛ فهو يرسخ منهجًا انفعاليًا قائم على امتحان العباد والشك في نواياهم وظاهر ألفاظهم وإلزامهم بما لا يلزم؛ ليرضي روحه الغضبية.

والله أسأل أن يهدي من أعانوا شياطين الإنس والجن على أخواتهم المؤمنات؛ ولسان حالهم المروي عن أحد المناظرين: فإن قلتَ كذا كفرتَ والحمد لله.

فالواقع الاجتماعي فيه مظالم كبرى، وليست وظيفة الخطاب الشرعي تقرير السائد وتثبيته؛ بل الحق أن ننكرر المظالم الاجتماعية، ونبرز المحاسن الشرعية، ونقرر الأحكام التكليفية؛ لا نسوية تدعي التشريف، ولا ذكورية تحصر بالتكليف؛ بل ربانية تراعي التكليف والتشريف والتخفيف والتعريف.

ختامًا:

أحبّ لأهل الصون والحفاظ من أخواتي المؤمنات السير في طريق التعلم، وتزكية النفس، ومكاثرة الحسنات، وعدم الالتفات لمن يجعل المعركة بين ذكر وأنثى؛ بل الشريعة تدعو للتكامل لا التصارع، وثنائية الحقوق الشرعية دائمًا بين (ظالم/مظلوم) مهما يكن جنسه ولونه ولغته.

وأحب للمصلحين بعامة المضي في تقرير الأحكام، ونشر المحاسن، وبناء الأجيال، وتحبيب الخلق في دين الله، وإعانتهم على أنفسهم، ورفع مستوى التدين الشبابي بما وسعهم من وسائل، أما المكوث تحت غبار المعارك المصطنعة فلن يسمح لنا بالكلام؛ سنستمر حينها بالسعال فقط.

 

___________

[1] النسائي (3955)، أبو داود (3567)، ابن ماجه (2334) وبينها اختلافات يسيرة.

[2] الإلمام (421/2)

[3] النسائي (4979)، أبو داود (4408)، الترمذي (1450) 4 ط. الأعظمي

[5] سننه (4/53) ط. شاكر

[6] إعلام الموقعين (4/340) ط. مشهور

[7] شرح النووي على مسلم (6/219)

[8] ينظر مثلًا: إرشاد الفحول (1/320)