عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلسمقالات

شكيب أرسلان

شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها (مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان):

أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس ، وهي خمس وخمسون مادة ، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق ، وفي طيها من عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم ، وعقائدهم ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه.

وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة ، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية ؛ بل إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم ، وأن يبقى هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب .

وفي المادة السادسة : عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة

النارية فتَقرَّر أخذها .

وفي المادة السابعة : تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته ، وفيما بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد ، وتسهيل معاملات بيع العقار لمن شاء الرحيل ، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً ، تعتبر وكالته ، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر .

وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا بدون رخصة الفقهاء.

وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم ، وإقرار الجميع على امتيازاتهم كما كانوا لعهد ملوكهم ، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا.

وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد من النصارى بيوت المسلمين ، حتى ولا الملك والملكة ، ومن خالف ذلك من النصارى يجازَى بشدة.

وفي المادة الخامسة والعشرين : إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في سائر الممالك ، ووصل إلى غرناطة فقد نجا ، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن يمسكوه ؛ لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب .

وفي المادة الثلاثين : أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز معاملته إلا بالحسنى ، ولا يرى أقل تحقير ، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة .

وفي المادة الواحدة والثلاثين : لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي .

وفي المادة الثانية والثلاثين : إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت ، لا تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي ، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون مسلمين ، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها.

وفي الخامسة والثلاثين : لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي جرت إلى يوم تسليم البلد ، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من تحقير الأسرى أو إهانتهم.

وفي الثانية والأربعين : تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي .

وفي الثالثة والأربعين : تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية ، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في بلاد الأندلس.

وفي الثانية والخمسين : عدم استخدام شرطة من النصارى لمراقبة شؤون المسلمين ؛ بل تكون شرطتهم من أنفسهم.

وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة وأراغون وليون وصقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف ، وينفذا جميع أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق ، وبدون أدنى زيادة ولا نقصان مهما يكن من الأسباب ، وأن تبقى على شكلها وهيئتها ، ولا يتغير ولا يتبدل حرف منها إلى الأبد ، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما ، ولا خلفاء خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها ، أو يبدلوا حركة من حركاتها ، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب ، وقاصٍ ودانٍ ، وكبير وصغير ، وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة ، يجزى جزاء من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير .

وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة ، وكتبت على رق غزال محلى ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من الميلاد.

وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين ، وأمضاها الملك فرديناند والملكة إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا ، والدون جان كبير فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس كردينال أسبانية ، ورئيس أساقفة المملكة ، والدون هنري كبير حكومة أراغون ،

ومن أبناء عم الملك ، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا ، والدون ألفارو مدير دائرة الملكين ، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة ، ويليهم نحو من أربعين دونًا كلهم من أبناء السلالة المالكة ، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها.

وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها إياه الْمَلِكان ، معينًا كلًّا منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء ، وإفراز ملكيته لجميع العقار الموروث ، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما يجلب من الأمتعة برسمه ، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك ، يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة ، وإن لم يشأ بيعها ، وأراد النقلة إلى بر المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها ، ويوردها عليه في أي جهة كان مما وراء البحر ، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا ، ولا يطالب بشيء ، ولا يكون مسؤولاً عن شيء مما حصل إلى حين عقد الصلح ، ولا يسترد شيء مما غنمه ، وجميع هذه الشروط كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي أبي نصر ، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى ، إلا أنني وجدت أكثر المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة 897.

(ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة ، وبعض شروط الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه) .

(وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء ، ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف الغدر ، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال ، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم ، ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت عليه ، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم، وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك ، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا ، وأن لا يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي ، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من حيث كانوا ، وخصوصًا أعيان نُصَّ عليهم ، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه ، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه ، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع ، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء ، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء ، وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره ، وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى ، وأن من تنصر من المسلمين يوقف أيامًا ، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى ، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد ، ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب ، ولا يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة ، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات ، ولا يزيدون على المغارم المعتادة ، وترفع عنهم جميع المظالم المحدثة ، ولا يطلع نصراني للسور ، ولا يتطلع على دور المسلمين ، ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم ، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه

وماله ، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود ، وأهل الدجن ، ولا يمنع مؤذن ولا مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه ، ومن ضحك منهم يعاقَب ، ويُتركون من المغارم سنين معلومة ، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده ، وأمثال هذا مما تركنا ذكره. انتهى المراد منه.

نقض الإسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم وإكراههم على التنصر:

قال صاحب المختصر المذكور:

ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول : ورد في تاريخ (الإسلام في إسبانية) تأليف ستانلي لانبول ما محصِّله : إن آخر أنفاس أبي عبد الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار ؛ بل بداية أنفاس يرسلونها الصعداء ، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء ، وإن أسقف غرناطة الأول هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً ، أحسن معاملة المغاربة ، وأبى الجور عليهم ، وتعلم العربية ، وكان يصلي بها ، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى النصرانية ، قيل : إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد ، إلا أن الكردينال كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل ، ومال إلى العنف والإكراه ، وأساء معاملة المسلمين ، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر ، فأثار ذلك ساكنهم ، وأخرج كامنهم ، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين لشأن من هذا القبيل ، فثار سكان البيازين ، وتحصنوا وحملوا السلاح ، وكادوا يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس ، إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة ، دخل ربض البيازين بالسكينة والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح ، وسأل القوم عن شكواهم ، وتقبلها منهم بالاستماع والاحتفال ، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره ، وحجب الدماء يومئذ ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة ، حتى أصدرت

أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين : الجلاء أو النصرانية ، وذلك بأنهم كانوا يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل ، فأُقفلت المساجد وأحرقت الكتب ، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب ، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً وألوانًا ، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم ، إلا أن شعلة من الحمية الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات ، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم.

وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501 ، وقُتل الدون المذكور ، وقيل : إنه الدون الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين ، فازداد انتقام الإسبانيول من المغاربة بعد هذه الغلبة ، وهجم كونت طنديلة على قوجار ، وهدم كونت سرين جامعًا على جماعة التجؤوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم ، وأمسك الملك فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال ، فمن بقي حيًّا من الثوّار فرَّ إلى مراكش ومصر والبلاد العثمانية وانتهت الثورة الأولى في الجبال.

ومضى على ذلك نصف قرن والبُغض دفين في القلوب ، والمسلمون المتنصرون يعمّدون أولادهم ظاهرًا ، فإذا انصرف القسيس مسحوا عن الولد ماء المعمودية ، وإذا تزوج أحد الموريسك (لقب المتنصرة من المغاربة) أجرى القسيس عقد الإكليل ، ثم بعد ذهابه عقدوا النكاح بحسب السنة الإسلامية.

وكانوا يتلقون قرصان البحر من أهل المغرب ، ويعاونونهم على اختطاف أولاد النصارى ، ويأتون غير ذلك ، فلو كانت ثمة حكومة عاقلة قوية ترعى عهودها التي واثقت عليها عند تسليم غرناطة ، لم يكن محل لذلك البغض العميق ؛ ولكن حكام الإسبانيول لم يكونوا أهل عقل ولا عدل ، وكانوا يزدادون بتمادي الأيام شرًّا ، ولم تلبث الأوامر أن صدرت بإكراه المغاربة على ترك ألبستهم المخصوصة بهم ، وعلى لبس البرنيطة والسراويلات الإسبانيولية ، وبحظر الغسل ودخول الحمام عليهم اقتداء بغالبيتهم في احتمال الأقذار ، ثم منعوهم من التكلم بالعربية ، وصدر الأمر بأن لا يتكلموا بغير الإسبانيولي ، بأن يغيروا أسماءهم ويسيروا سيرة إسبانيولية ، ويسموا أنفسهم إسبانيولا ، وكان تصديق الإمبراطور شرلكان هذا الأمر

الفظيع في سنة 1526 على أنه لم يكن الظاهر من اعتماده إجراءه بالفعل ؛ لكن عماله اتخذوه ذريعة لاستنزاف أموال الموسرين من المغاربة ، صار ديوان التفتيش يحترف ويتجر بهذه المسألة ، ولما صار الأمر إلى فيليب الثاني شدد في إنفاذ الأوامر بحق الموريسك ، وسنة 1567 عزز الأمر الصادر بشأن تغيير الزي واللغة باستيثاق غريب ؛ لأجل منع النظافة التي هي من سنن الإسلام ، وذلك بأنه أخذ يهدم حمامات الحمراء البديعة ، فالطرائق التي أخذوا بها لتنكير أحوال تلك الأمة هي أشد من أن يحتملها أي قبيل كان ، دع سلائل المنصور وعبد الرحمن وأبناء سراج ، ولذلك لم يطل الزمن حتى استطار الشر واشتعلت الفتنة ، وثار فرج بن فرج من نسل بني سراج بجماعة من ذوي الحمية من غرناطة ، قاصدًا الجبال قبل أن تمكنت الحامية من تعقبهم ، ونودي بهرناندو دوفلور من نسل خلفاء قرطبة ملكًا على الأندلس تحت اسم محمد بن أمية ، وعمت الثورة في أسبوع واحد كل أنحاء جبال البشرات ووقع ذلك سنة 1568.

ولما كانت هذه الجبال من أصعب تضاريس الأرض مرتقى وأوعرها مسلكًا ، كان تدويخ سكانها من أصعب الأمور منالاً ، والفتنة فيه بعيدة المرمى ، فاستمرت هذه المرة حولين كاملين ، حافلاً تاريخها بحوادث لا تحصى من القتل والغدر والتعذيب والاستباحة والاحتيال من الجانبين ؛ لكنه أيضًا حافل بوقائع يندر في تاريخ الفروسية ، وكتب الحماسة الظفر بأمثالها ، وتبقى على صفحات السير فخرًا للقرون والأمم .

كان المغاربة هناك في موطنهم الأخير ، والموقف الذي يحاولون فيه إدراك الثأر على نحو مائة سنة قضوها في البلاء العظيم ، والهون الذي ليس له نظير ، فهبوا جميعًا منادين بأخذ الثأر واقتضاء الأوتار قرية بعد قرية ، وهدموا الكنائس ، وأهانوا ما فيها ، وفتكوا بالقسيسين ، وعذبوا النصارى الذين وقعوا في أيديهم ، واعتصم الذين نجوا بالمعاقل والأبراج ، ودافعوا دفاعًا شديدًا ، وكان مركيز مونتيجارة قائدًا في غرناطة ، فعمد إلى المسالمة ، وأخذ بالملاينة ، وكادت الوقدة تنطفئ لولا ما أعاد الشرر من ذبح مائة وعشرة سجناء في حبس البيازين من المغاربة ، قيل : إن ذبحهم وقع بغير علم المركيز ؛ لكن الموريسك لم يقبلوا العذر ، ونشروا لواء الثورة ، وصار ابن أمية أميرًا بالفعل على جميع جهات البشرات ، إلا أنه لم يكن ممن يحسن السياسة ، فقام بعض أعوانه وقتلوه ، وبويع لرجل آخر موصوف بالنجدة والحماسة اسمه عبد الله بن أبوه.

فأرسلت دولة إسبانية لتدويخ الثوار الدون جون الأوسترى أخا الملك ، وهو شاب في الثانية والعشرين من العمر ، فباشر القتال في شتاء سنة 1569 إلى 1570 ، وأتى من الفظائع ما بخلت بأنداده كتب الوقائع ، فذُبح النساء والأطفال أمام عينيه ، وأحرق المساكن ودمر البلاد ، وكانت علامته (لا هوادة) وانتهى الأمر بإذعان الموريسك ؛ لكنه لم يطل واستأنف مولاي عبد الله بن أبوه الكرة ، فاحتال الإسبانيول حتى قتلوه غيلة ، وبقي رأسه منصوبًا فوق أحد أبواب غرناطة ثلاثين سنة ، وأفحش الإسبانيول في قمع الثورة بما أقدموا عليه من الذبح والحريق والخنق بالدخان حتى أهلكوا من بقية العرب هناك خلقًا كثيرًا ، وخنع الذين نجوا من الموت لكنهم وقعوا في الرق ، وسيقوا مماليك وعبدانًا ، ونُفي جملة منهم ، فأخذ عددهم يتناقص ، ولما كان اليوم المشهود والمذكور في التواريخ وهو عيد جميع القديسين سنة 1570 ، بلغ عدد من ذهب منهم عشرين ألفًا ، والذين أخذوا منهم في معمعة الفتنة صاروا إلى الاستعباد ، والباقون أخرجوا من البلاد مخفورين ، فمات كثير منهم على الطرق تعبًا ، فمنهم من أجاز إلى بر العدوة وطافوا هناك سائلين لأجل قوتهم الضروري ، ومنهم من لجأ إلى بلاد فرنسا حيث استقبلوهم بِرًّا وترحيبًا ، واحتاج إليهم هنري الرابع لأجل دسائسه في مملكة إسبانية ، ولم ينتهِ إخراجهم تمامًا إلى سنة 1610 ، إذ وقع الجلاء الأخير ولم يبق في تلك البلاد مسلم بعد أن وليها الإسلام ثمانية قرون ، ويقال : إن عدد من خرج منهم منذ اليوم الذي سقطت فيه مملكة غرناطة إلى السنة العاشرة بعد الألف والستمائة يبلغ ثلاثة ملايين ، وأن الذين خرجوا لآخر مرة نحو نصف مليون.

وأما الإسبانيول المساكين فلم يعرفوا ماذا يصنعون ، ولا أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم ؛ بل كانوا فرحين مسرورين بطرد المغاربة ، مع أن إسبانية كانت مركز المدنية ومبعث أشعة العلم قرونًا ، وقلما استفادت بقعة أوروبية من حضارة الإسلام بمقدار ما استفادته هذه البلاد ، فلما غادرها الإسلام انكسفت شمسها وتسلط نحسها ، وإن فضل مسلمي الأندلس ليظهر في همجية هؤلاء القوم وتأخرهم في الحضارة ، وسقوط هذه الأمة في سلم الاجتماع بعد أن خلت ديارها من الإسلام. انتهى كلامه ملخصًا.

واستشهد في حاشية هذه الجملة بنقل يمثل لك درجة هذه الحقيقة ، وهو أن الملِك حوَّل مدينة غرناطة ضياعًا واسعة ومزارع التزموا بيعها سنة 1591 ؛ بسبب كونهم يخسرون عليها أكثر من غلتها ، مع أن هذه البقاع كانت لعهد العرب حدائق غنَّاء ، وغياضًا ذات أفياء ، وموارد ثروة ورخاء.

وقال واشنطون أرفن في تاريخه لفتح غرناطة ما معناه ملخصًا: إنه بعد دخول هذه البلدة في حوزة الإسبانيول بقيت الحال غير مستتبة تمامًا مدة سنوات إلى أن وقع من اجتهاد رؤساء مذهب الكاثوليك في حمل المسلمين هناك على النصرانية ، ما أيأس مغاربة الجبال المتشددين في دينهم ، فثأروا برؤساء الدين ، وقبضوا على اثنين من هؤلاء الدعاة في مدينة دارين وعرضوا عليهما الإسلام فامتنعا فقتلوهما ، وقيل : إن النساء والأولاد قتلوهما قصعًا بالعصي وشدخًا بالحجارة ، وإنهم أحرقوا جثتيهما ، فانتقم النصارى من هذه الفعلة بأن اجتمع منهم نحو ثمانمائة فارس ، وساروا إلى قرى المغاربة يخربون ويعيثون ، فاعتصم المغاربة بالجبال ، وانتشرت الفتنة في الجبال كلها ؛ لكن وسطها كان في جبل برميجه المصاقب للبحر ، فلما

اتصل الخبر بالملك فرديناند أصدر أوامره بنقل المغاربة الساكنين في جهات الثورة إلى قشتالة ، وأعطى الأمر سرًّا بأن من يدخل منهم في النصرانية يبقى في وطنه ، ثم رمى تلك الأُمة بالصائد المشهور ألونزو دواغيلار ، ومعه جيش وهو الذي قضى معظم شبابه في قتال المغاربة ، فما اقترب من بلادهم حتى هرع جملة وافرة منهم إلى رندة للدخول في النصرانية ، وجمر الباقون منهم تحت قيادة فارس اسمه الفهري سائقين نساءهم وأطفالهم إلى حيث يتعذر السلوك من تلك الأوعار ، مرابطين شعاب الجبال دون مرور عساكر الإسبانيول فالتقى الجمعان أمام بلدة مونارده ، وانتشب القتال فيقال: إن الدون ألونزو مع ابنه الدون بطرو وثلاثمائة من شجعانه صدقوا الحملة على المغاربة ، فأزاحوهم وتلاحقوا في الهزيمة ، فتتبعهم

الجند يغنمون وينهبون ، ولما امتلأت أيديهم بالغنائم كر عليهم الفهري بجماعة من أبطاله ، وعلت الصرخة فارتجَّت لها جوانب الأودية ، وذعر الإسبانيول ، فتداعوا للفرار ، وثبت ألونزو في مكانه يحرضهم ، ويضم من شتيت شملهم ، فصبر معه جماعة ، وولى الأكثرون ، ودخل الظلام ، وخيم الغسق ، واشتد الخناق بالإسبانيول ، وجرح بطرو ابن ألونزو ، فأمره أبوه بالرجوع ، فأصر على البقاء بجانب أبيه ، فأمر أتباعه بحمله إلى معسكر كونت أورينه فاحتملوه مثخنًا جراحًا ، ولبث الدون بمائتين من رجاله ، يناضلون حتى فنوا عن آخرهم.

وتحصن الدون بين صخرين يتقي بهما ، فبصر به الفهري فقصده واستحر الصراع ، وألحّ الفهري وطمع في قرنه ، وكانا متماثلين في ثبات الجنان مع قوة الأضلاع وتوثق الخلق ، فصاح ألونزو بخصمه (لا تحسبن نفسك وقعت على صيد هين ، فأنا الدون ألونزو دراغيلار) فأجابه المغربي : (إن كنت أنت الدون ألونزو فاعلم أنني أنا الفهري) ثم كوره صريعًا ، ومات بموته مثال الفراسة الإسبانيولية والنموذج الغشمشمية في الأندلس.

واندفع المغاربة ذلك الليل بطوله يطاردون الإسبانيول ولم ينكفئوا حتى لاح الصباح ، فأجلى المعترك عن قتل الدون فرنسيسكو دوناميز المدريدي الذي كان قائد المدفعية الأكبر ، وكانت له المواقف المشكورة في حصار غرناطة ؛ لكن مصرع الدون ألونزو دواغيلار أنسى الأحزان جميعها ، وعند وصول خبر هذه الفاجعة إلى الملك زحف بالجيش إلى جبال رندة ، فسكنت بحضوره النائرة ، واشترى بعض المغاربة أرواحهم فجازوا إلى إفريقية ، واحتمى آخرون بالنصرانية ، وأما أهل البلد الذي قتل فيه الدعاة فسُلكوا في سلسلة العبودية ، وبحث الملك عن جثة الدون فوجدوها بين مائتي جثة من الإسبانيول ، فيها أجساد عدد من الأمراء والكبراء ، فحملوها إلى قرطبة في مشهد حافل ، بين مدامع كالسحب الهواطل ، ودفن في

كنيسة مار هيبو ليتو ، وندبه الإسبانيول دهرًا طويلاً). انتهى كلامه مجملاً.

وذكر المؤرخ الفرنسي الشهير فيكتور دروى في تاريخه ما يأتي ملخصًا: (أن أسبانية تخلصت من العرب لكنها بقيت حافظة عليهم إحنة شديدة ، ربتها في قلوبهم ثمانية قرون قضتها معهم في الحرب ، وكان لذلك العهد سكان الجزيرة أخلاطًا من مسلمين ونصارى ويهود ، فعول فرديناند على توحيد الهيئة بوحدة الاعتقاد ؛ تعزيزًا للدولة ، فأنشأ ديوانًا جديدًا للتفتيش ، وكان الملك هو الذي يعين الرئيس والمفتش الكبير ، ويضع يده على أملاك المحكوم عليهم ، وكان هؤلاء في البداية من النصارى المتهودين والمسلمين المتنصرين ظاهرًا الباقين في الباطن أمناء لمحمد (صلى الله عليه وسلم) ثم شملت أحكام الديوان أهل البدع السياسية كالبدع الدينية أيضًا.

وسنة 1492 قرر ديوان التفتيش المذكور طرد اليهود من إسبانية بعد أن سلبوهم أموالهم ، وقد قدر بعض المؤرخين المعاصرين لتلك الحادثة عدد من خرج منهم 800 ألف (قلت: منهم جماعة وافرة بأزمير وأقوام بالآستانة هاجروا إليها في تلك الكائنة ، ومنذ خمس سنين احتفلوا بعيد مُضيّ الأربعمائة سنة على دخولهم بلاد الدولة العلية ، أكثروا فيه من الدعاء لسلطنة آل عثمان التي هي كهف المطرودين).

والقسم الأكبر منهم هلكوا وعذبوا بما لم يعذبه أحد من العالمين ، وسنة 1499 صدر أمر بسلب المغاربة حريتهم الدينية التي تقررت لهم بموجب عهد غرناطة ، فجلا منهم جم غفير ، ولم يتم خروجهم جميعًا حتى القرن التالي في سنة 1609 ، وهكذا فازت إسبانية بوحدتها الدينية ؛ لكنها خسرت صناعتها وتجارتها اللتين كان العرب واليهود أهم عمالها.

وذكر مرة عند كلامه على شرلكان أنه أكمل مقصد فرديناند ، فأكره مغاربة بلنسية على التنصر وأهل غرناطة على ترك زيهم والتكلم بغير لغتهم ، وقال بمناسبة فيليب الثاني أنه اضطهد المغاربة ، وضيق عليهم حتى التزموا الثورة سنة 1568 ، وأوقدوا نيرانهم على تلك الجبال إيذانًا بالخروج ، وكان يمكنهم بما أمسكوه من مخانق جبالهم الثبات طويلاً لو امتدت إليهم يد معونة من إخوانهم أهل إفريقية ، ففرق فيليب شملهم ، وبددهم في مقاطعته ، ولم تمض سنون عشر حتى صاروا كلهم أرقاء.

ثم لنذكر بحسب عادتنا في المقابلة كلام المقرئ في هذه الوقائع الأخيرة ، وهو ببعض تصرف : (ثم إن النصارى نكثوا العهود ، ونقضوا الشروط عروة عروة إلى أن آل الحال لحملهم المسلمين على التنصر سنة أربع وتسعمائة ، بعد أمور وأسباب أعظمها وأقواها عليهم أنهم قالوا : إن القسيسين كتبوا على جميع من كان أسلم من النصارى أن يرجعوا قهرًا للنصرانية ، ففعلوا ذلك وتكلم الناس ولا قوة لهم ، ثم تعدوا إلى أمر آخر وهو أن يقولوا للمسلم : إن جدك كان نصرانيًّا فأسْلَمَ فلترجع نصرانيًّا ، ولما فحُش هذا الأمر قام أهل البيازين على الحكام وقتلوهم ، وهذا كان السبب للتنصر قالوا : إن الحكم خرج من السلطان من قام على الحاكم فليس إلا الموت إلا أن يتنصروا بالجملة ، فإنهم تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة ، وامتنع قوم من التنصر واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك ، وامتنعت قرى وأماكن كذلك

منها بلفيق وأندرش وغيرهما ، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلاً وسبيًا ، إلا ما كان من جبل بللنقة فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، مات فيها صاحب قرطبة وهو ألونزو دواغيلار ، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر.

ثم بعد هذا كله كان مَن أظهر التنصر من المسلمين ، يعبد الله في خفية ويصلي ، فشدد عليهم النصارى في البحث حتى إنهم أحرقوا منهم كثيرًا بسبب ذلك ، ومنعوهم من حمل السكين الصغيرة فضلاً عن غيرها من الحديد ، وقاموا في بعض الجبال على النصارى مرارًا ، ولم يقيض الله تعالى لها ناصرًا ، إلى أن كان إخراج النصارى إياهم بهذا العصر القريب عام سبعة عشر وألف ، فخرجت ألوف بفاس وألوف أخر بتلمسان من وهران وجمهورهم خرج بتونس ، فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى في الطرقات ، ونهبوا أموالهم ، وهذا ببلاد تلمسان وفاس ونجا القليل من هذه المضرة.

وأما الذين خرجوا بنواحي تونس فسلم أكثرهم ، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها ، وكذلك بتطاون وسلا وفيجة الجزائر ، ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكرًا جرارًا ، وسكنوا سلا كان منهم من الجهاد في البحر ما هو مشهور الآن ، وحصنوا قلعة سلا ، وبنوا بها القصور والحمامات وهم الآن بهذا الحال ، ووصل منهم جماعة إلى القسطنطينية العظمى ، وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام ، وهم لهذا العهد على ما وصف ، والله وارث الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين) انتهى.

المصدر: مجلة المنار، العدد 2، ذو القعدة 1343هـ، يونيه 1925م

0 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً