السفور والحجاب (1)مقالات

شكيب أرسلان

كثر في هذه السنين خوض الكُتّاب في مسألة حجاب النساء المسلمات وسفورهن، فأُلِّفت فيها الكتب ، وأخذت مجالاً واسعًا من أبحاث الصحف المنتشرة ، فالمتفرنجون يدعون إلى هتك الحجاب ، على ما يلزمه من خلع جلباب الحياء والتبرج والتهتك والفجور ، وأهل الدين يدعون إلى المحافظة عليه أو على العرض والنسب به ؛ ولكن أكثر ما كتب في ذلك مباحث نظرية ، وتخيلات شعرية ، حتى عثرت الجرائد في هذه الأيام على بحث علمي فيه لأمير البيان شكيب أرسلان فنشره الكثير منها على اختلاف مشاربهم في المسألة ، ورأينا نحن أن ننشره في المنار أيضًا؛ لما فيه من العبرة والبيان الذي لا يعارَض بالمراء والخلابة وهو:

    منذ نحو ثلاث سنوات كانت المعيشة في ألمانيا في غاية الرخص ، فكان طالب العلم في إحدى الكليات يقدر أن يعيش بنحو جنيهين أو ثلاثة في الشهر ، فانتهزتُ هذه الفرصة لتذكير أبناء وطني سورية وفلسطين بكون المعيشة في ألمانيا هي أرخص منها في نفس بلادنا ، فالذين يعتذرون عن تقصيرهم في تعليم أولادهم بقلة ذات اليد ليس عليهم إلا أن يرسلوهم إلى ألمانيا؛ فيتاح لهم أرقى تعليم عصري بأخف ما يتصور العقل كلفة وأقرب منالاً ، ونشرت ذلك في جريدة الصباح التي كانت تصدر في القدس الشريف ، فأقبل على إثر هذه الكتابة نحو أربعين طالبًا عربيًّا يريدون مناهل العلم في برلين ولايبسيغ وكونستانز وغيرها ؛ وإنما كثرت عليَّ الأسئلة يومئذ في موضوع التعليم في ألمانيا والمعاش في ألمانيا بصورة وصلت إلى أدق الأمور التافهة ، إلى أن عجزت عن الجواب ، وأحلت ذلك إلى لجنة خاصة أشرت بتأليفها في برلين لهذا الغرض .

وكان من جملة من استفتاني في أمر التعليم بأوربا رجل من أعيان فلسطين ، كتب إليَّ أن له في ألمانيا ولدين : ابنًا وابنة ، فأما الصبي فهو في المدرسة المسمَّاة جمنازيوم وهو في الثامنة من العمر ، وأما الفتاة فهي في مدرسة بنات قد بلغت الثانية عشرة من العمر ، وهو يلتمس رأيي في أمر تعليمهما ، هل يتركهما يكملان التحصيل في ألمانيا أم يسحبهما إلى الوطن ؟ ولا سيما البنت فإنها كادت تبلغ سن الرشد ، وهذا محل شاهدنا في هذه القضية.

فأتذكر أنني جاوبته بأن الولد يمكنه أن يتم تعليمه هناك بشرط أن يتعلم اللغة العربية ، وبالفعل كل ولد عربي لا يتعلم لغة أهله منذ الصغر ولا يعرف نفسه عربيًّا منذ الصغر ، لو بلغ من العلم أعلى درجة لم يكن لنا أن ندعوه غصنًا مهذبًا من أغصان هذه الشجرة ؛ بل نعدُّه غصنًا اقتُطع منها وغُرس في حقل آخر ، وهو قد أصبح ليس منا ولا يفيدنا بشيء ، وأما من جهة البنت فقد جاوبته أنني لا أدري ماذا أقول لك؛ لأنني لا أعرف مشربك الخاص ، والمسألة هي بحسب مشربك ، فيمكنك أن تسحب بنتك من ألمانيا منذ الآن وتكمل تعليمها في القدس ، وثِقْ أنه يوجد في القدس علوم تكفي ابنتك ولا تقصر عن شأو رغبتها ، كما أنه يمكنك أن تُبقي ابنتك في ألمانيا إلى أن تتم تحصيلها كأحسن بنت ألمانية ؛ ولكن على الوجه الأول تتعلم ابنتك مع بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية اللغة العربية والعقيدة الإسلامية وتخرج مسلمة ، وأما على الوجه الثاني فتتعلم بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية ؛ ولكنها تخرج مسلمة بالاسم فقط ، وعربية باللفظ العامي لا غيرُ ، وعلى الوجه الأول تبقى ابنتك لك ولا تتزوج إلا مسلمًا ، وعلى الوجه الثاني تبقي ابنتك لك إذا هي شاءت وإن لم تشأ لم تقدر أن تعارض إرادتها في شيء ، ولا ينبغي لك أن تكون مبغوتًا إذا قيل لك : إن ابنتك أحبَّت شابًّا ألمانيًّا وأخذته ؛ لا بل شابًّا يهوديًّا واقترنت به ، فاختر أنت لنفسك أحد الوجهين ، فإنني لا أعرف مشربك الخاص في هذه المسألة ، ولا أنا عليم بذات صدرك حتى أقول لك : إن أخذت بهذا الوجه أو ذاك الوجه تتعب ويحصل لك - كما يقال - وجع رأس ، وترى أني لست قائلاً لك هذا الوجه أولى من هذا ، وإياك أن تعمل هذا ، كلا ، لم أقل لك شيئًا من هذا المعنى ؛ بل قصارى ما قلت لك : إن كان يكرثك أن تلبس ابنتك البرنيطة ، وتخاصر أي شاب استلطفته في الطريق ، وتقترن بمن تريد ولو غير مسلم وما أشبه ذلك مما هو جديد في الإسلام ، فأولى بك أن تسحب ابنتك من اليوم من ألمانيا قبل أن يعسو عودها ؛ فإنك بعد ذلك لا تقدر على ردها عما تريد ، ولا أقول لك : إنها ستتزوج حتمًا بغير مسلم ، وستخاصر حتمًا من شاءت من الشبَّان بدون إذن منك أو من أمها ، كلا ؛ وإنما أقول لك : إنه يجوز أن تفعل ذلك ، وحينئذ لا تقدر أنت أن تمنعها .

وأما إذا كنت أنت ترى أن ما وسع الألماني وما وسع الأوربي بأسره يسع المسلم أيضًا ، وهم بشر ونحن بشر ، وكما جاز للأوربية أن تتزوج مسلمًا برضا والديها أو بدون رضاهما ، يجوز للمسلمة أن تقترن بأوربي أو بيهودي أو بصيني بوذي أو بهندي براهمي... إلخ بدون رضا والديها ، فعند ذلك أقول لك : دعها تكمل تحصيلها في ألمانيا ؛ فالمسألة مسألة وجهة ونظر ، فالذي يرى هذه الوجهة فطريقه هذا ، والذي يرى تلك الوجهة فطريقه هذا ، فأما أن يرسل ابنته إلى أوربا ويخرجها في مدارس لا تعلِّم لغة عربية ولا عقيدة إسلامية ، أو يخرجها عند الراهبات العذاريات أو عند راهبات الناصرة ، ثم يطالبها بأن تبقى مسلمة دينًا وشرقية ذوقًا ومشربًا وأن لا يعطيها واحدًا ، وأن يحاسبها على عشرة ، فهذا تكليف ما لا يطاق .

وأضم إلى هذا المثال مثالاً آخر : عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال أحمد رضا بك من زعماء أحرار الترك : (ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة التركية على جسر غلطة وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية) فكانت هذه المرحلة الأولى ، وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب فالح رفقي بك الذي كان كاتبًا عند جمال باشا في سورية كتب : (أنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت أيان شاءت ولو كان من غير المسلمين ؛ بل ما دامت لا تقدر أن تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلمًا أو غير مسلم - فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياه) فهذه هي المرحلة الثانية.

فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ، ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء ؛ بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض ، لا بد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها ، وإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة أن يقبلها بحذافيرها بدون تعنت ولا تثاقل ، فإن كان ممن يرى رأي فالح رفقي بك - إن كان كما بلغني؛ لأنني لم أقرأ كلامه وإنما أرجح صحته - بهذه الصراحة التامة التي معناها أنه يجب لتمام الرقي أن تصير الفتاة المسلمة قادرة أن تتزوج بمن شاءت نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مجوسيًّا ؛ بل أن تخادن من شاءت كذلك ، ولا حرج عليها في قانون بلادها ، فقد انحلَّ المشكل وارتفع النزاع ، ولم يبق حاجة إلى أن نقول : السفور خير من الحجاب ، أو الحجاب خير من السفور ؛ بل تنحصر المسألة في هل يجب أن نقبل هذه النتائج بحذافيرها أم لا ؟

وأما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها ، وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت ، وتحادث من أرادت ، وتضاحك من أرادت ، وتغامز من أرادت ، ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا ، فذهبت وساكنته ، وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجته - أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا: ياللحمية وياللأنفة ويا للغيرة على العرض! فهذا لا يكون ، وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون.

والنتيجة التي نريدها قد حصلت ، وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة بالقذة في مسألة المرأة هذا ، له توابع ولوازم لا بد أن نقبلها ولا يبقى معها محل لكلمة : (أعوذ بالله) ، كلا ، لا يوجد هناك (أعوذ بالله) ؛ بل تلك مدنية وهذه مدنية ، تلك نظرية وهذه نظرية ، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: (أعوذ بالله) .

إن الشاب المصري منطقي الحكم سريع الفهم ، ما نطق بكلمة : (أعوذ بالله) ، عندما قال له الأستاذ الرافعي: أفتَرضَى أن تقعد أختك عند أوروبي بالإجازة؟ أو بمعناه - ألا انتبه إلى كون تعوذه هذا مخالفًا للقاعدة التي زعم أن لا إصلاح إلا بها ، وهي حرية النساء المطلقة في العالم الإسلامي كما في العالم الأوروبي: تأخذ المسلمة من تشتهيه نكاحًا أو سفاحًا ولا يُحرَّج عليها في ذلك ، قاعدة فالح رفقي بك الذي مر بنا قوله ، قاعدة عبد الله جودت الذي أشار لأجل تجديد دم الأتراك بتزويج التركيات من شبان الألمان والطليان والحصول على نسل جديد ، وكتب ذلك منذ أشهر ، وامتعض من كلامه بعض فتيان الترك من أنصار الجمهورية ؛ ولكن لم يتحرروا من وساوس الغيرة على العرض فقام ورد عليه قائلاً : نحن الأتراك دمنا أطهر من أن نصلحه بهذا الاختلاط الذي أشار به عبد الله جودت ؛ ولكن الحقيقة هي أن القاعدة ما قاله الدكتور عبد الله جودت وما قاله فالح رفقي وما قاله الشاب المصري مخاطب الأستاذ الرافعي ، هذه هي القاعدة لا غيرها ، ويأبى المنطق أن تكون هي القاعدة ، وأن يقال على إثر قبولها : أعوذ بالله من مفاعيلها ؛ لذلك لم يلبث الشاب المصري الذكي أن قال : ما أنا وأمثالي إلا شذوذ ، والقاعدة يجب أن تبقى أبدًا قاعدة ، وبعبارة أخرى يقول: أنا وأمثالي لا نزال تحت سلطان الوهم ، ونأبى أن ندع أخواتنا يؤجرن أنفسهن من الأوربيين ، لا عملاً بمقتضى الحكمة والعقل ، ولا جريًا على سنن الطبيعة ، ولا اتباعًا لمذاهب المدنية العصرية ؛ بل خضوعًا لأوهام ووساوس لم نتحرر بعد منها ، فهو يعترف بصحة القاعدة التي توجب هذه الإباحة ؛ ولكنه لا يزال يخجل أن يعلن كونه يرضى بمخادنة أخته لشاب تتفق معه فتؤجره نفسَها بدون عقد نكاح شرعي ، نعم هو لا يزال ينكص عن إعلان الرضا بمثل هذه الفضيحة ؛ وإنما يرجو أن يكون ابنه أو حفيده ممن يغضي النظر عليها ، أو يشترك في سن قانونها في مجلس النواب المصري سنة 1950 مثلاً .

(للمقال بقية)


المصدر: مجلة المنار ، العدد 3 ، ذو الحجة 1343هـ ، يوليو 1925م