معركة البلاط: عبدالرحمن الغافقي البطل الشهيدمقالات

محمد رجب البيومي

كان عبدالرحمن الغافقي رحمه الله بطلاً بعيد الهمة ، حازم الإدارة ، وكان جديرًا بتخليد اسمه ، وترداد ذكره ، لولا أن حافظة التاريخ لا تعي غير أسماء محظوظة ، كتب لأصحابها النصر في النهاية ، ولقد أبدى هذا البطل العظيم من ضروب الفدائية وروائع التضحية ما يدهش ويعجب ، إلا أنه كان في المعركة الأخيرة مع بسالته الخارقة قائدًا بغير جنود.

وقد نشأ نشأة مباركة ، فصحب كرام الصحابة ، وتلقى الفقه والحديث عن عبد الله بن عمر وغيره ، وفاضت نفسه حماسة للإسلام وشغفًا بانتصاره ، فنزح فيمن نزح إلى الأندلس من البواسل الكماة مجاهدًا في سبيل دينه ، ثم تألق نجمه فيما اشترك فيه من الغزوات والحروب ، فعرف بالشجاعة والمروءة ، واكتسب إجلال معارفه وأصحابه، وتقدم الصفوف قائدًا ممتازًا ، يرسم الخطط ويدير المعارك.

وكانت الأندلس في عهدها الأول مرتعًا للفتن والثورات ، ومسرحًا للخلاف القبلي والعنصري ، وقد وليها بعد موسى بن نصير أناس لم يثبتوا للحوادث، حتى رأسها السمح بن مالك الخولاني فأعاد إليها النظام والاستقرار ، وأبرز مهارته الإدارية ، وكان بطلاً مقدامًا ، فرأى أن يستأنف الغزو ، ويرفع راية الجهاد ، وتقدم بجيشه الباسل ، فلقي كثيرًا من النجاح والتوفيق ، واستعاد أربونة وقرقشونة ومعظم قواعد سبتمانيا وحصونها ، وأقام بها حكومة إسلامية ، ثم اتجه إلى أكوتين ، فوجد مقاومة عنيفة ؛ ولكنه اكتسح العدو اكتساحًا رائعًا ، وتقدم إلى تولوشة فوقف أمام جيش كثيف يفوقه عددًا وعدة ، فلم يعبأ به واخترق صفوفه وقذف بجنوده في حومة حمراء تعج بالدماء ، وشاء القدر أن يسقط شهيدًا في مأزقه الكريه ، فانسحب المسلمون ثانية بعد أن فقدوا قائدهم البطل وخسروا عددًا كبيرًا من الجنود.

وكان عبد الرحمن الغافقي أحد جنوده في المعركة ، فأجمع الجيش على اختياره للقيادة ، ورأى من الحنكة أن يرتد إلى الجنوب ؛ ولكن حزنه الأليم على مصرع قائده واستشهاد زملائه جعله يفكر جديًّا في الانتقام لمصارع الأبطال واستئناف الغزو والهجوم.

ولم يرض الوالي الإفريقي عن اختيار الغافقي للقيادة ، وكانت الأندلس تابعة له في تعيين الولاة ، فبعث بغيره مكانه ، إلا أن القلق والاضطراب في مدى خمسة أعوام متتابعة قد أجبره على تعيين عبد الرحمن مرة ثانية ، فعاد الأسد إلى عرينه يتقدم الصفوف ويجهز الكتائب للنضال.

بدأ عبد الرحمن بإصلاح داخلي يقوم على العدالة والمساواة ، فعدل نظام الضرائب وعزل من العمال من حامت حوله الريب والظنون ، وأظهر تسامح الإسلام في معاملة النصارى واليهود ، فلهجت الألسنة بالثناء عليه وفرح الأندلسيون بولايته فرحًا زائدًا ، ولم يكن ليحابي أحدًا في سبيل الحق والعدالة ؛ بل إن أخلاق الإسلام قد سرت في عروقه واختلطت بدمائه فألهمته سبيل الرشاد ، وقد غزا غزوة عاجلة فغنم أسلابًا وفيرة ، وكان فيما أصابه عمود صغير من الذهب المرصع بالدر والياقوت فأمر به فكسر ثم أخرج الخمس كما أمر الله وقسم الباقي على من معه من الجنود ، فغضب والي إفريقية غضبًا شديدًا ؛ إذ كان يود أن يتقدم به إليه مجاملة ، فكتب يتوعده في لهجة قاسية ، فرد عبد الرحمن يقول : "إن السموات والأرض لو كانتا رتقًا لجعل الله للمتقين مخرجًا منها" ، وذلك يدل دلالة ساطعة على إيمان القائد وورعه ، وتخلقه بالخلال الإسلامية واضحة شفافة ، فهو لا يعبأ بكبير في الحق ، ولا يدخر لنفسه شيئًا دون جنوده ، وبهذه الشمائل العالية نال ثواب الله ، واحتل شغاف القلوب.

وكان هذا البطل الباسل يعزم عزمًا أكيدًا على تحقيق أمنية موسى بن نصير في الفتح الإسلامي ، فهو يريد أن يوغل في أرض الإفرنج حاملاً مدنية الإسلام وحضارته إلى شعوب غارقة في الظلام والضلال ، ثم يعطف إلى الشرق فينفذ من القسطنطينية إلى دمشق ، وبذلك يعم الإسلام القارة الأوروبية ، وينتشل شعوبها من الظلمات إلى النور ، هذا إلى أن مصرع السمح بن مالك ورفقائه كان يذكي في صدره نار الحمية ، فهو يود - وقد شاهد المأساة - أن يؤدب هؤلاء الذين ظنوا الظنون الوخيمة بقوة الإسلام فأشاعوا الشائعات المسمومة حول شجاعة أبطاله ومقدرة قواده ، ومن ثم أخذ يدرب الجيوش ويحشد الذخائر ويضع كل جندي في موضعه اللائق بكفاءته ، ولم تثنه أعباؤه الإدارية عن إعداد الجيش ، وإذكاء الحمية في نفوس تتطلع إلى النصر أو الاستشهاد ، كما انتخب فرقًا مختلفة من البربر وعهد بقيادتها إلى أبطال من العرب ، فأحسنوا تدريبها الحربي وأضافوا إلى الجيش الإسلامي قوة عظيمة ، وقد خلع الغافقي بعمله هذا على البربر مكرمة خالدة ، فشعروا أنهم لا يقلون عن العرب كفاءة وموهبة ، وإن كانت روح الإسلام لم تهيمن على مشاعرهم هيمنة تامة عاجلة ، فقضوا بعدُ أمدًا كبيرًا في التوجه والاستعداد.

وقد رأى عبد الرحمن أن يطهر الجبهة الداخلية قبل أن يشتبك مع أعداء الإسلام في موقف حاسم ، فبعث بكتيبة من جنوده إلى عثمان بن أبي نسعة ، وكان من قبل واليًا بربريًّا على الأندلس فعزل عنها وعين حاكمًا لولايات البرينيه ، فاضطرم حسدًا وحقدًا على الغافقي ، وتعاهد مع أعداء الإسلام على مقاتلته ؛ بل إنه تزوج ابنة دوق (أوكتين) ليضمن مساعدته في قتال عبد الرحمن ، وكان هذا الدوق بين نارين ، فهو يخشى من الجنوب الجيوش الإسلامية التي أصبحت على مقربة منه تهدد مقاطعته وتدمر حصونه ، كما يخشى جيوش الإفرنج من الشمال ، وقد بعث شارل مارتل بطلائعها الزاحفة لمناوشته ، وإسقاط معاقله ، فاضطر اضطرارًا مجازفًا إلى معاهدة ابن أبي نسعة ، ومصاهرته أيضًا ، وطار الخبر إلى عبد الرحمن فأرسل إلى الوالي الخائن جيشًا بقيادة أحد المهرة من جنوده ، فحاصره وقتله جزاء مروقه وخيانته.

عبأ الغافقي جنوده واستأنف الغزو طبقًا لمشروعه الضخم الذي رصد حياته لتنفيذه ، فاكتسح المدن الواقعة على نهر الرون ثم هجم على ولاية أكوتين وحالفه النصر فمزق جيوشها وطارد فلولها وسقطت في يده ، وتابع زحفه منتصرًا في جميع خطواته حتى افتتح نصف فرنسا الجنوبي من الشرق إلى الغرب في بضعة أشهر ، وأصبحت العاصمة الفرنسية مهددة بالسقوط ، وقد التهب جنوده حماسة وحمية ، وزادهم إقدامًا ما يتوجون به في كل معركة من النصر الباهر والفتح العظيم.

انزعجت أوروبا انزعاجًا صارخًا لتقدم الجيوش الإسلامية وفزع زعماء المسيحية فأرسلوا صيحاتهم الصليبية في آفاق أوروبا ، وبذلوا أقصى ما يقدرون عليه في إشعال الكراهية للإسلام ، وتأريث العداوة لرجاله ، وكان ملك الفرنجة ضعيفًا عاجزًا يتولى حاجب قصره شارل مارتل قيادة أموره ، فتجمع حوله الصليبيون وقدموه قائدًا للكفاح النصراني ، وكان ذا أطماع واسعة يهدف إليها من وراء قيادته ، فحشد جيشًا ضخمًا يؤلف العصابات الجرمانية والعشائر المتوحشة ويجمع طوفانًا مرعبًا من الآدميين المتوحشين ، وقد خرجوا حفاة عراة يتشحون بجلود الذئاب والنمور ، ويرسلون ضفائرهم الممتدة فوق ظهورهم ، فيرسمون للوحشية البدائية صورًا مزعجة حمراء ، وضاقت بجموعهم الكثيفة سهول فرنسا ، فتدافعوا على ضفاف اللوار متراصين متزاحمين.


المصدر: مجلة الأزهر ، 16 محرم 1374هـ ، 14 سبتمبر 1954م ، الجزء الثاني ، مجلد 26 ، (ص100-103)