تاريخ الدعوة الإسلامية في السنغالمقالات


مقدمة:

نبذة عن جغرافية السنغال:

تقع جمهورية السنغال في المغرب الأقصى من قارة أفريقيا، وتطل على المحيط الأطلسي، وهي في المنطقة المدارية الشمالية، ما بين خطي عرض 12 جنوبا و 16،5 شمالا، وبين خطي الطول 11،5 شرقا و 17،5 غربا (1).

أما سطح أراضي السنغال فهي في غالبها سهول منبسطة، إلا أجزاء قليلة منها في الجنوب الشرقي من البلاد، فيوجد بها هضاب مرتفعة بعض الشيء (2).

وتقطن السنغال عدة جماعات لغوية، وأهمها ما يلي: ولوف، وسيرير، وبول ( فلاتة ) وجولا، وماندينك.

يبلغ مجموع سكان السنغال تقريبا عشرة ملايين نسمة.

تاريخ دخول الإسلام في السنغال:

لم يتفق المؤرخون في تحديد تاريخ دخول الإسلام في أفريقيا، حيث يرجعه بعضهم إلى حركة المرابطين بقيادة المجاهد عبد الله بن ياسين في القرن الحادي عشر الميلادي 1053 م، ويرجعه آخرون إلى جهود التجار المسلمين الذين وصلوا إلى المنطقة من برقة بليبيا، والقيروان بتونس، وتلمسان بالجزائر، ومن طريق لمتونة بالمغرب، كما أن كثيرا من الكتاب يربطون دخول الإسلام إلى السنغال بإسلام أحد الملوك السنغاليين واسمه ( وارجابي ) عام 1040 م، والذي أقر بالشريعة الإسلامية في مملكته بعد إسلامه (3).

عهد الشيوخ والطرق الصوفية (الميزات الملامح):

يعد من أهم مراحل الدعوة الإسلامية في السنغال عهد الشيوخ والطرق الصوفية، وهذه نبذة يسيرة تتناول بعض مميزاته وملامحه.

أولا: الميزات.

يتميز عهد الشيوخ من الناحية الدينية والثقافية بعدة أمور مهمة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

دخول أكثر الشعب السنغالي في الإسلام، فقد دخل على أيدي الشيوخ ( الدعاة آنذاك ) جماهير لا تحصى من الوثنيين.

تعليم القرآن الكريم ونشر علومه، حيث بذلوا الجهود الجبارة والمضنية في حفظه وتحفيظه ونسخه.

خدمة اللغة العربية والعناية بها، وهي ميزة بارزة من مزايا الشيوخ والدعاة الأوائل، فقد أبدعوا في النثر، وقرضوا الشعر، بل أجمعوا على اعتبار اللغة العربية اللغة الرسمية في البلاد حتى بعد دخول الاستعمار إليها وفرض اللغة الفرنسية فيها بالحديد والنار.

المحافظة على الهوية الإسلامية ومقاومة الاستعمار الغربي، الذي كان يستهدف في خطتها الصليبية العقيدة الإسلامية، وجميع مظاهرها في حياة معتنقيها.

ثانيا: الملامح العقدية و الفكرية:

اصطبغت الناحية الدينية في عهد الشيوخ بملامح عقدية وفكرية خاصة، وهذه بعض تلك الملامح العقدية والفكرية:

انتشار التصوف وكثرة طرقه، حتى غدا أكثر العوام لا يشكون في وجوب انتماء المسلم إلى طريقة من تلك الطرق (4).

غلبة العقيدة الأشعرية: فأغلب علماء السنغال في تلك الفترة ينتحلون العقيدة الأشعرية الكلابية، والتي كانت توصف بأنها عقيدة أهل السنة والجماعة.

شيوع المذهب المالكي: ففقهاء السنغال كلهم أو أغلبهم مالكية.

الدعوة الإسلامية المعاصرة ( أو فترة جيل الصحوة):

حينما انقرض جيل الشيوخ، وولى الاستعمار الفرنسي، خلف كل واحد منهما وارثا أخذ على نفسه خدمة مشروع سلفه الحضاري ونشر رسالته الثقافية، إذ ترك الشيوخ بعدهم طبقة من طلاب العلم الشرعي وحملة الثقافة الإسلامية العربية، كما ربى المستعمرون من أبناء البلد ربائب لهم عهد إليهم حكم السنغال وتوجيه الحياة السياسية فيه من بعدهم، ولذلك لم يزل الصراع الحضاري التاريخي بين دعاة الإسلام وبين دعاة التغريب مستمرا إلى الآن، فهاهم أولاء ( دوم سغن ) (5) يسعون جاهدين للمحافظة على كتاتيب آبائهم وشيوخهم، وقد يطورونها في شكل مدارس عربية نظامية، لتخريج أكبر قدر ممكن من الملتزمين بتعاليم الإسلام وحملة الثقافة العربية، في الوقت الذي يبذل فيه ورثة المستعمر الفرنسي كل جهودهم في الدعوة إلى التغريب الشامل لجميع أنماط الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

كيف ظهر الجيل الجديد؟

بفضل من الله وتوفيق، تضافرت عدة عوامل في إخراج أمة من الناس يختلفون عن أسلافهم في كثير من التصورات والأعمال، ومن تلك العوامل ما سأذكرها:

1- الابتعاث إلى الدول العربية:

(( نظرا لعدم وجود مدارس ثانوية أو جامعات لتعليم اللغة العربية، كان التلاميذ والطلبة مضطرين للسفر إلى البلاد العربية، رغبة منهم في متابعة دراساتهم للحصول على شهادات عالية، في كل المجالات الدينية والأدبية.. )) (6) فيمموا الدول العربية للنهل من مناهلها العلمية في الجامعات والاستفادة من التجارب الدعوية التي كانت في أوجها في تلك الفترة الزمنية في الحجاز وشمال أفريقيا.

2- الزيارات الدعوية:

زار السنغال عدد كبير من العلماء والدعاة المعاصرين، وتركت تلك الزيارات بصمات واضحة على مسيرة الدعوة الإسلامية المعاصرة، فمن الزوار من كان يركز في أحاديثه على بيان العقيدة الصحيحة ويحذر من نواقضها الاعتقادية والقولية والعملية، ويفصل في ذلك إلى حد لم يكن الدعاة ليجرؤوا على تجاوزه، ومنهم من يحرص على تبصير الناس بالمنهج الوسط في التعامل مع المذاهب الفقهية بطريقة علمية حكيمة، ويرد على كثير من الشبهات التي كانت تعارض بها نداءات الدعاة المحليين، وكما أن من الزوار من يوجه حديثه إلى النخبة المثقفة بالثقافة الغربية ويناقش أفكارهم وتصوراتهم الخاطئة عن الإسلام.

وسائل الدعوة عند جيل الصحوة المعاصر:

لا بد لأية دعوة من آليات ووسائل تقدم عبرها، وتمارس من خلالها أنشطتها وفعالياتها، ولقد مرت الدعوة الإسلامية المعاصرة في السنغال عبر قنوات متنوعة وفعالة، إما لأصالتها كالمساجد والكتاتيب القرآنية وحلقات العلم، وإما لتأثيرها كالمعاهد والمحاضرات والندوات ونحوها:

الوسيلة الأولى: المساجد.

إن تجربة الدعاة المعاصرين في إصلاح المساجد وإعادة مكانتها كانت على خطوات:

الأولى: إلقاء الكلمات قبل خطبة الجمعة، في مساجد المسالمين للدعوة، يطلقون عليها ( البيان ) وكانت تلقى باللغات المحلية، ويتحدث الدعاة فيها عن جميع مسائل الدين وقضايا الدعوة، مع بعض الإجمال وشيء من الحذر في المواضيع الحساسة، حتى لا يمنعون مرة أخرى من الحديث.

الثانية: تفويض بعض أصحاب تلك المساجد أمر الخطبة والصلاة بالناس في الجمع والجماعات إلى من يثقون فيهم من الدعاة المتصفين بالحكمة في الدعوة، فيلقي الداعية المفوض خطبه المتميزة باللغة المحلية، فيؤثر في الناس تأثيرا بالغا، لحداثة عهدهم بهذا النوع من الخطب التي يدركون معانيها، ويتفاعلون مع مواضيعها المتجددة.

الثالثة: بناء الدعاة مساجد لأهل السنة، مفتوحة لكل من يقصدها لأداء الصلوات أو الاستفادة من الدروس أو المحاضرات التي تلقى فيها، وغير ذلك من الأنشطة الدعوية، ومن خصائص تلك المساجد إلقاء الخطب باللغات المحلية، مع التنويع في موضوعاتها وإحياء السنن المهجورة بين المسلمين في المساجد وممارسة الأنشطة الدعوية المتنوعة داخلها.

ومن أشهر المساجد الناجحة في هذه التجربة:

1- مسجد النور في حي ( كلوبان ) في العاصمة ( دكار ) وتشرف عليه حركة الفلاح السلفية.

2- مسجد جامعة شيخ أنت جوب في دكار ن وتشرف عليها جمعية الطلاب المسلمين في السنغال

3- مسجد الدعوة في مقاطعة ( روفسك ) وتشرف عليها جماعة عباد الرحمن.

الوسيلة الثانية: الكتاتيب القرآنية الحديثة:

اتخذت كتاتيب القرآن الكريم في البلاد شكلا جديدا عندما اقتحمت طائفة من جيل الصحوة الإسلامية المعاصرة مجال تحفيظ القرآن الكريم، وفتحوا مدارس داخلية نموذجية تعنى بتربية الأولاد على العقيدة الإسلامية الصحيحة والأخلاق الحسنة والأخوة الإسلامية، مع النظام الدقيق المساعد على التحفيظ في وقت قياسي وجهد يسير.

وهناك إقبال شديد على هذه المدارس الجديدة، وفيما يلي نماذج من الكتاتيب القرآنية الحديثة التي أنشأها الدعاة إلى الله من الجيل السني المعاصر:

1- معهد دار الأرقم ب ( فاس توري ): وهو أول محاولة جادة في سبيل تحسين تعليم القرآن الكريم، وتربية التلاميذ تربية سنية – حسب علمي – ولذلك كان ولا يزال يؤمها التلاميذ من شتى أبناء الطوائف الدينية والطرق الصوفية، ويشرف عليها الداعية الإسلامي الشهير الشيخ عبد العزيز توري، ولا نكون مبالغين إن قلنا بأن أغلب المدارس القرآنية الحديثة عيال على هذه المدرسة، لأن أكثر أعضاء هيئة التدريس في تلك المدارس من خريجيها.

2- مدرسة عبد الله بن مسعود لتعليم القرآن الكريم: وقد تأسست هذه المدرسة في حدود عام1993 م في مدينة دكار ( بارسيل أسن ) ومديرها المؤسس الشيخ إبراهيم خليل لوح، وهي مدرسة متميزة في مجال تحفيظ القرآن الكريم والتربية الإسلامية السنية، على الرغم من حداثة نشأتها النسبية، إذ خرجت في وقت قياسي نفرا من طلبة العلم الذي قطعوا مراحل علمية متقدمة بفضل الله ثم بفضل البرنامج العلمي الجيد في المدرسة.

3- مدرسة دار الإيمان لتحفيظ القرآن الكريم والتربية الإسلامية: أنشأت هذه المدرسة عام 1997 و مديرها الشيخ حبيب الله سه وهي مؤلفة من قسمين: القسم الخارجي: وهو عبارة عن مرحلة ابتدائية متكاملة، تدرس إلى جانب العلوم الشرعية واللغة العربية اللغة الفرنسية.

القسم الداخلي: ويقوم بتحفيظ القرآن الكريم للناشئة من بنين وبنات.

4 مدرسة أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها- لتحفيظ القرآن الكريم: وهي أول مدرسة سنية خاصة بتربية البنات وتحفيظهن لكتاب الله، قامت بإنشائها الداعية المربية الحاجة بنت تياو- حفظها الله ورعاها - وهي الأخرى تشهد إقبالا من أولياء التلميذات، وذلك بفعل التربية الإسلامية التي تتلقاها الفتيات في المدرسة في وسط نسائي رباني محتشم، بالإضافة إلى حفظ كتاب الله مع تلقي المبادئ الشرعية الأساسية.

الوسيلة الثالثة: المعاهد الشرعية:

تنشر المعاهد والمدارس الشرعية في جميع أقاليم السنغال، ولكن قليلة تلك التي تعنى بالتربية الإسلامية الجادة، وأقل منها التي تعتمد منهج أهل السنة والجماعة في مناهجها الدراسية وسياساتها التعليمية.

ولما لاحظ بعض رجال التربية من جيل الصحوة الإسلامية المتنامية في السنغال تدني مستوى التربية الدينية والتعليم الشرعي في أكثر المعاهد الموجودة في البلاد، سارع كثير منهم إلى إنشاء مدارس ذات طابع دعوي مميز، ووضعوا لها برامج وأهدافا تربوية مرسومة، ومن أشهر تلك المدارس وأكثرها نجاحا المداس التالية:

1- معاهد حركة الفلاح السلفية: ( تحتوي معاهد الفلاح البالغة (52) مركزا إسلاميًّا، على المراحل الثلاثة: الابتدائية والإعدادية والثانوية، ومناهجها مستقاة إلى حد كبير من منهج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ) (7) وأشهر تلك المدارس مدرسة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في حي ( كولوبان ) ومعهد الحاج محمود باه في (بكين) و كلتاهما موجودتان في العاصمة دكار.

2- المؤسسات التعليمية التابعة لجماعة عباد الرحمن: حيث ( عنيت هذه الجماعة بالتربية والتعليم، وأسست لهذا الغرض لجنة تشرف على مؤسساتها التعليمية.. وتمتاز مدارسها بجودة التعليم والجمع بين التربية وحسن النظام )(8) , ومن أشهرها مدرسة بلال بن رباح – رضي الله عنه - ومعهد الحاج عمر الفوتي، والمدرستان موجودتان في مدينة ( تياس ) وللجماعة تجربة لا بأس بها تهدف إلى محاولة الجمع بين منهج التربية الإسلامية والمنهج الرسمي في المدارس الحكومية، وقد طبقت هذه التجربة بنجاح في معهد النور في ( سبختان )، حيث يسجل المعهد نتائج جيدة جدا في الامتحانات الوطنية السنغالية، إلى جانب التربية الإسلامية التي يتمتع بها التلاميذ داخل فصول الدراسة وغرف السكن في المدرسة.

3- المعهد الإسلامي العالي بلوغا: و هذا المعهد بناه الشيخ عباس صل – رحمه الله – بمساعدة من المملكة العربية السعودية، وللمعهد دور كبير وجهد مشكور في نشر العقيدة السلفية والعلوم الشرعية، ولقد استفاد منه عدد كبير من طلاب العلم، وخاصة أولئك الذين كادت الرسوم الغالية في المدارس الشرعية الأهلية أن تحول بينهم وبين إكمال تحصيلهم العلمي الشرعي.

4- الكلية الأفريقية للدراسات الإسلامية: أنشأها شيخنا الدكتور محمد أحمد لوح – حفظه الله - بعد رجوعه إلى البلاد متخرجا من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية تلبية لحاجة علمية ماسة كانت تعاني منها خريجي المعاهد الثانوية، نظرا لقلة المنح الدراسية التي كانت تعطى لهم لمواصلة دراستهم في الدول العربية وندرة فرص التعليم الشرعي الجامعي في البلاد، وهي عبارة عن كلية جامعة تحاول توفير الضروري من التخصصات الشرعية للطالب، ليتخرج منها بعد ذلك بقدر من العلم يرشحه لنشر العلم والدعوة إلى الله عز وجل على منهج أهل السنة والجماعة.

الوسيلة الرابعة: المحاضرات والندوات العلمية.

وانتشار هذه الوسائل بين الدعاة في السنغال ولدى جميع التوجهات الدعوية والمدارس الفكرية أمر معروف، بل إن من الملحوظ غلبتها على وسائل أخرى لا تقل عنها أهمية، كالحلقات العلمية والدورات الشرعية وغيرها.

ويعد من أشهر المحاضرات والندوات تلك المحاضرات الرمضانية في مسجد مطار دكار الدولي، والتي كانت يختار لها أكثر الدعاة تأثيرا في الساحة السنغالية كالأستاذ محمد بمب جاي، والشيخ عبد العزيز توري، والشيخ إبراهيم الخليل لوح وغيرهم، والثلاثة يمثلون التنوع المنهجي المتعاون في خدمة الدعوة الإسلامية المعاصرة، إذ تميزت محاضرات الأستاذ بمب بفقه الواقع السياسي الداخلي والخارجي، وفضح مكائد أعداء الإسلام، وكشف شبهات العلمانيين والمتغربين، كما كانت لهجة الشيخ عبد العزيز توري تمثل الخطاب الدعوي المستفيد من تجربة الشيوخ الماضين، والمعترف لجيل الصحوة بالإبداع والتجديد، أما أستاذنا الشيخ إبراهيم فقد عرف بحكمته المتناهية في دعوة المخالفين لأهل السنة والجماعة وإلزامهم بأقوال شيوخهم، مما أكسبه قبولا عاما لدى كثير من أتباع الطرق الصوفية، على الرغم من وضوح منهجه السلفي في المسائل العلمية والعملية على السواء.

الوسيلة الخامسة: المخيمات الصيفية:

وهي نمط آخر من وسائل الدعوة المنتشرة في البلاد، يتميز بسيادة الجو الأخوي بين المشتركين فيها، حيث تسنح لهم فرصة الالتقاء والتحدث عن قضايا الدعوة الإسلامية، وتبادل الخبرات والتجارب، إلى جانب الفائدة العلمية التي يجنيها المشتركون من الدروس والمحاضرات والندوات التي تلقى في تلك المخيمات.

وأنشط المؤسسات العاملة في هذا المجال هو جماعة عباد الرحمن ممثلة في جناحها الطلابي حركة الطلاب والتلاميذ التابعة لجماعة عباد الرحمن، وكذلك شباب حركة الفلاح السلفية، والرابطة الوطنية للطلاب السنغاليين في الخارج فرع الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.

ملامح الدعوة المعاصرة في السنغال واتجاهاتها:

فيما سبق أطلنا الحديث عن أسباب التحول وآليات التغيير في مسار الدعوة الإسلامية في السنغال، وفي هذا المبحث سنذكر إن شاء الله ما امتازت به هذه الفترة الأخيرة من الدعوة إلى الإسلام فترة جيل الصحوة المعاصرة، وما هي إضافاتهم واتجاهاتهم الفكرية والعقدية التي لم تكن معروفة أو مشهورة قبل ظهورهم.

أولا: التوجه العام إلى الكتاب والسنة:

مع بداية الستينات بدا يظهر في الأفق اتجاه عام من طلبة العلم إلى نبذ التقاليد الموروثة، وتجديد التصور والعطاء في جميع أمور الدين، وإن لم يكن أصحاب هذا التوجه آنذاك متربين على منهج علمي دعوي محدد يختلف عما اشتهر في البلاد من أنماط التربية والتكوين، ولكن تضافرت عدة عوامل لدفع هذا الجيل الجديد إلى التوجه مباشرة صوب الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح – رحمهم الله – في الاعتقاد والعبادة والسلوك والدعوة، ولعل من أهم تلك العوامل قراءاتهم المتوسعة لإنتاج الدعاة المعاصرين والتي فتحت أمام جيل الصحوة آفاقا فكرية واسعة لم يعرفها أسلافهم، لأن المستعمر الفرنسي لم يكن يسمح بإدخال كتب إلى السنغال، غير كتب اللغة العربية والتصوف أو علم الأسرار ( السحر)، ولما تغيرت الحال واستقلت البلاد، وزادت الصلة بعلماء المشرق العربي والشمال الأفريقي ودعاتهم من أهل السنة والجماعة، وجد الدعاة السنغاليين ضالتهم فأقبلوا على إنتاجاتهم الفكرية بنهم، وذلك لتميزها بالأصالة الشرعية في عرض العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلم الشريعة الإسلامية وفقه التربية والسلوك، وكذلك الجدة النسبية لمضامين تلك الإنتاجات.

أضف إلى ذلك طبيعة العقائد المنحرفة والتقاليد البالية والتي لا يصبر عليها من تنورت بصائرهم ولو بقبس من كتاب الله تعالى وصحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تصبر قلوبهم على عقائد ثبتت بطلانها وتقاليد عفى عليها الدهر، ولو كان عليها الآباء والأجداد، ودان بها العظماء والكبراء، لأن الحق لا يعرف بالرجال، والرجال يعرفون بالحق، وهذه الحقيقة هي التي حدت الإسلاميين الجدد من جيل الصحوة إلى مراجعة ونقد كثير من موروثهم العقدي والفكري، وعدم دس رؤؤسهم في رمال التقليد والتعصب، والتمادي في الغي بعد تبين الرشد، فقوطعت المناسبات والمشاهد، وتخلي عن الرموز والرسوم، كما نوقش بلا رفق ولا هوادة كل العقائد والمفاهيم، وكان صراعا مريرا مع أنفسهم في البحث عن الحق والدعوة إليه والثبات عليه، وصراعا مع التقاليد والعادات التي يعد الخروج عليها ذوبانا في الغير وكفرا بشيوخ الإسلام وأقطاب الدين، إلى أن تمايز الجيلين جيل الطرق والشيوخ وجيل الصحوة الصاعد، وتفرق السبيلان، سبيل المحافظة على القديم المعتاد من أمور العقيدة والشريعة، وسبيل التجديد والتطوير والنقد والتمحيص.

ثانيا: ظهور الجمعيات والمؤسسات الإسلامية:شعر الدعاة منذ بداية تحركهم بحاجة ماسة إلى قوة تساند أعمالهم الدعوية، وتحميها من محاولات الطمس والاحتواء، فلا الزعامات الصوفية هي التي تخاطر بتربية فلول من أهل السنة والجماعة لتنقلب عليها في ليل أو نهار، فتنزع عنها جلابيب القداسة، وترمي بعقائدها عرض الحائط، ولا السلطة السياسية هي التي ترعى أعمالها وتعطيها الشرعية، لما ترى فيها من التطرف والرجعية التي لا تتماشى مع المشروع الحضاري العلماني.

من هنا وجد الدعاة الحاجة إلى إنشاء الجمعيات والمؤسسات لتنهض بواجبات الدعوة التي تنوء بحملها الأفراد، فأنشأت جمعيات ومؤسسات كثيرة ومختلفة، ما زالت بعضها تؤدي دورها في نشر العقيدة الصحيحة ومحاربة البدع والخرافات، والوقوف أمام المد التغريبي الهائج، كما أصبح بعضها مع الأيام وسائل لجمع المال وكسب الجاه والشهرة، وفيما يلي أسماء لبعض الجمعيات العاملة في الساحة:

1- الجمعية الثقافية، وقد تأسست في مدينة سانت لويس عام 1930 م.

2- جمعية لواء تآخي المسلم الصالح 1937 م.

3- الاتحاد الثقافي الإسلامي 1953 م

4- الاتحاد الوطني الثقافي للجمعيات الثقافية الإسلامية 1962 م

5- جمعية المستعربين 1972 م.

6- جماعة عباد الرحمن 1978 م.

7- حركة الفلاح السلفية 1979 م.

8- جماعة العمل الإسلامي (9)

الاتجاهات الدعوية الجديدة: إن مما تميزت به مرحلة جيل الصحوة بروز اتجاهات دعوية جديدة، جراء تأثر أصحابها بدعاة ومصلحين اقتنعوا بصحة أفكارهم وسلامة مناهجهم، فراحوا يستفيدون من تجاربهم في الدعوة والتربية من أجل الإصلاح والتغيير في بلدهم السنغال، وأشهر الدعوات والمدارس الفكرية التي تأثر بها الدعاة في السنغال هي:

1) الدعوات الإصلاحية السنية: مثل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية: التي تركز أتباعها غالبا على الدعوة إلى التوحيد ومحاربة البدع والخرافات، وإحياء مظاهر الهدي الظاهر في مجال السلوك والأخلاق، وحركة الإخوان المسلمون: التي أنشأها الشيخ حسن البنا، ويحاول أتباعها والمتأثرون بها الإصلاح الشامل لجوانب الحياة الإنسانية على ضوء المنهج الإسلامي، ودعوة الشيخ عبد الحميد بن باديس الجزائري، وأقرب الجمعيات إلى هذه الدعوات الإصلاحية السنية هو حركة الفلاح السلفية التي تأسست بعد رجوع مؤسسها الشيخ محمود با من الحجاز وبنائه مدارس تحمل اسم مدارس الفلاح وفاء للعهد لمدارس الفلاح بمكة المكرمة، حيث كان يدرس رحمه الله تعالى، وتربيته لتلاميذه على منهج السلف الصالح.

وللحركة جهود طيبة في مجال التربية والتعليم ونشر عقيدة أهل السنة والجماعة ومحاربة البدع والخرافات، بواسطة مؤسساتها التعليمية المتواجدة في أكثر أقاليم السنغال، وأنشطتها الدعوية والخيرية التي تتعاون في تنفيذها مع الحكومات والمؤسسات العلمية الخليجية.

وجماعة عباد الرحمن التي ظهرت نتيجة انفصال حدث داخل الاتحاد الثقافي الإسلامي في السبعينات إثر حدوث خلاف بين قادة الاتحاد والنخبة التي أصبحت فيما بعد النواة الأولى للجماعة كما يقول الأستاذ عبد القادر سيلا في كتابه "المسلمون في السنغال" ص 165، وقد تعاقب على إمارة الجماعة كل من الأستاذ علي جوف – رحمه الله – والأستاذ سيدي غالي لوح، والشيخ مالك جاي – رحمه الله، وناب في الإمارة هذا الأخير بعد وفاته الأستاذ أحمد جه – وفقه الله - توزعت اهتمامات جماعة عباد الرحمن حسب مجالات العمل الإسلامي المتعددة من دعوة، وتربية، وعمل خيري وإغاثي، ودعوة إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي، كما تمتاز بنشاطها النسوي الكبير، واعتنائها بتلاميذ وطلاب المعاهد والجامعات الفرنسية، بالإضافة إلى التنظيم الدقيق الذي تسير عليه برامجها الدعوية والتربوية.

2) الاتجاه التبليغي: منذ بداية الدعوة المعاصرة في البلاد كان لجماعة التبليغ حضور في الساحة، حيث كانت المنظمات السنية تفتح مساجدها لقوافل ( الخروج في سبيل لله )، وتستضيف دعاتها في مراكزها، مما أدى إلى تأثر كثير من أتباع تلك المنظمات بمنهج جماعة التبليغ المنحصر على الدعوة إلى التهذيب الخلقي وغرس الإيمان في القلوب دون التعرض لتفاصيل مسائل الإيمان، والخوض في القضايا السياسية، ومع مرور السنين والأعوام ازداد نشاط جماعة التبليغ، لاسيما في العاصمة دكار، وتقلصت أواصر التعاون بينهم وبين الجمعيات السنية في كثير من المجالات مع تنامي التمايز المنهجي والعقدي بين الاتجاه التبليغي في البلاد وبين الحركات السنية الشمولية.

3) الاتجاه الشيعي: يوجد طائفة من شباب الصحوة الإسلامية المعاصرة تعجبهم الثورات والشعارات أكثر من الحقائق والاتجاهات الرشيدة، إذ ليس أمامهم قضية واضحة يدافعون عنها أو عقيدة معينة يدعون إليها، لذا تجدهم ضحايا لأية ظاهرة خارجة عن مألوف الناس، فكيف إذا لبست لباس الإسلام أو رفعت شعار الجهاد في سبيل الله؟ هذا هو الذي أصاب بعض الشباب في السنغال من الانخداع بالثورة الإسلامية التي قادها الخميني، الذي أحسن كثير منهم ظنه به وحسبوه المخلص للأمة، والحقيقة هي أن ثورته ما ظهرت إلا لتنضاف إلى مجموعة التحديات العقدية الكبرى أمام مشروع البعث الإسلامي المعاصر.

التحديات التي تواجه الدعوة الإسلامية المعاصرة في السنغال(التحديات الداخلية – التحديات الخارجية ):

يحول دون تحقق أهداف الدعوة الإسلامية المعاصرة في السنغال عديد من التحديات، وكئود من العقبات بعضها داخلية والأخرى خارجية، ومن أصول النقد والتصحيح التي تعلمناها من هدي القرآن الكريم: البدء بالنقد الذاتي للجماعة المسلمة قبل اتهام الكفار والمنافقين والمبتدعة وغيرهم من أعداء كل دعوة مهتدية، قال تعالى: " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها فلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير " (10)، وذلك لا يعني بالضرورة عدم الالتفات إلى التحديات التي من خارج الدعوة أو الأمة الإسلامية، وعلى كل باحث ينشد الدقة في التشخيص والإصابة في الحكم أن يبحث عنهما، ويقيس مدى تأثيرهما في مسيرة الدعوة الإسلامية، وذلك ما نقوم به في المباحث التالية إن شاء الله:

المبحث الأول: التحديات الداخلية "

إن مجرد الإخلاص في القصد أو السلامة في التصورات لا يكفل لأي فرد أو جماعة الاستقامة المطلقة، بحيث تسلم أعماله وأقواله من سلبيات ونقائص، ولذلك فإن هناك سلبيات ونقائص مرصودة من أعمال وأقوال وصفات جيل الصحوة المعاصرة تصنف ضمن التحديات الداخلية أمام دعوتهم وجهادهم من أجل الإصلاح والتغيير، وهاكم بعض تلك التحديات في المطالب القادمة:

المطلب الأول: قلة العلم الشرعي:وأعني به قلة العلم بمبادئ العقيدة الإسلامية الصحيحة، وفقه العبادات والأحكام الشرعية، ومنهج الدعوة الرشيدة، وغير ذلك من علوم الغاية والآلة.. التي لا يسع الداعية جهلها، كل ذلك متفش بين المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية المعاصرة، مع الأسف الشديد، حيث اكتفى بعضهم بما حصله من التعليم التقليدي في الكتاتيب، أو من التعليم الإسلامي المعاصر الذي لم يتجاوز المرحلة الثانوية، وانشغل الآخرون عن العلوم الشرعية بالكتابات الفكرية والثقافية، أو بالبرامج التنظيمية البحتة، حتى أصبحت بضاعة أغلبهم في العلم مزجاة، وبرامجهم الدعوية مرتجلة، ومواقفهم في القضايا المصيرية مترددة.

ولاشك أن لهذا التحدي الخطير مظاهر واضحة يلحظها المرء في جميع طبقات الدعاة من القمة إلى القاعدة، تتمثل في ثلاثة أمور وهي:

1- الاضطراب المنهجي: وهو ما نراه جليا في التفسيرات المتعددة والمتضاربة في الوقت نفسه لكثير من المفاهيم الشرعية، كمفهوم السلفية الذي يجهله كثير من منتحليها من الدعاة وطلبة العلم وعامة الناس، فضلا عن مناوئيها، وكمفهوم الجماعة التي وردت النصوص في الحث على لزومها وعدم الخروج عليها، وحدود الجماعة الدعوية الخاصة التي هي وسيلة اجتهادية للدعوة إلى الله ونشر دينه، وكذلك حقيقة الفرقة الحاصلة في الأمة، والموقف الشرعي من المخالفين من أهل العلم والاجتهاد، أو من أصحاب البدع والأهواء، فهناك نقص بين في إدراك هذه الأمور كلها وتصورها تشهد عليه التطبيقات الخاطئة والناتجة عن تلك التصورات، مثل تصنيف الكثير من الدعاة والحركات في دائرة المخالفين لمنهج السلف لخلاف في جزئيات في العقيدة أو الفقه أو طريقة الدعوة إلى الله، ومن ثم هجرهم وعدم التعاون معهم في أنشطة لاشك أن نجاحها يكون مصلحة للإسلام والمسلمين وهلم جرا.

2- التصدر قبل التأهل:وهو النتيجة المباشرة عن رفع العلم وقبضه في آخر الزمان، كما أخبر النبي – عليه الصلاة والسلام – لأن الناس لابد لهم من رؤوس يتبعونهم ويرجعون إليهم فيما أشكل عليهم من أمور دينهم ودنياهم، وحين يغلب الجهل ويتفشى بين طائفة من الناس ولو كانوا دعاة إلى الله ومجاهدين في سبيله، فإنهم قد يلجئون إلى شروط ومواصفات وضعية في اختيار القادة والرؤوس، يستبدلون بها أو يقدمونها على الشروط الشرعية و المواصفات العقدية في الشخصية القيادية المسلمة، وفي مقدمتها ( اليقين ) أو ( العلم )، وما ظاهرة القيادات الهزيلة في كثير من الحركات الإسلامية العاملة في الساحة السنغالية، والفتاوى الجريئة في المسائل العظام، إلا مظهرا من مظاهر قلة العلم الشرعي الواجب في حق كل من يتصدر للدعوة أو التربية والتعليم، فكم من أمير لجماعة دعوية، أو مطاع في مجموعة مستقلة يمارس أدوارا علمية أو تربوية لم يحصل أدنى شروطها العلمية أو العملية، ولم يرشحه لتلك المنزلة إلا الأقدمية في عضوية الجماعة، أو المكانة الكبيرة في قلوب المجموعة، إما لكبر في السن، أو لغنى، وربما لسبب عرقي وعنصري، ولاشك أن مثل هذه الزعامات ليست هي التي تقود الدعوات إلى تحقيق أهدافها في إصلاح ذاتها، ثم إصلاح غيرها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولم يحصل قط في تاريخ الدعوة والإصلاح أن تحقق بعث أو تجديد على يد جاهل غير عالم، أو مخالف لأمر الله غير صابر قال تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ".

3- زهد الناشئة وحديثي العهد بالالتزام عن العلم الشرعي: وذلك لما وجدوا البرامج الدعوية لجماعاتهم وقادتهم خالية من الدروس العلمية في سائر التخصصات الشرعية التي هم في حاجة ماسة إلى ألف باءاتها، فراح المساكين إلى الأشرطة والمطويات والمترجمات، ليحصلوا منها العلم فيما يزعمون، وهيهات أن تخرج أشرطة الكاسيت - على أهميتها - وكذلك المطويات والمترجمات داعية إلى الله على بصيرة، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادل بالتي هي أحسن، وما هذه الفئة المتعالمة في البلاد من ناشئة جيل الصحوة، والمتطاولة على علماء الأمة، والخائضة في عويص المسائل العلمية، المشتغلة بالتبديع والتفسيق بل والتكفير، إلا خريجي الأشرطة والمطويات والمترجمات، لا من طلاب الكليات الشرعية ولا الحلقات العلمية، وقديما قال أحد السلف: " إن من توفيق الأعجمي والنشء إذا تنسكا أن يوفقا لصاحب سنة ".

المطلب الثاني: التفرق والتحزب:وهذا التحدي الداخلي ذو شقين، الشق الأول: هو تفرق الأشخاص وتشتت الجهود، وأما الثاني: فهو تحزب المجتمعين وتعصبهم لما اجتمعوا عليه من الاختيارات العلمية أو العملية، وكلاهما أمر مذموم شرعا وعقلا، وقد وقع فيه كثير من دعاة السنغال، ولا يكاد يسلم أحد من واحد من الداءين، ولست بدعا ممن وصف دعاتنا بالتفرق، بل سبقني الأستاذ عبد القادر سيلا في ذكر هذه الحقيقة المرة فقال: " فالدعاة فرق شتى تتباغض وتتقاطع وتتهاجر، ومنظمات متشرذمة لا تجتمع على كلمة، ولا تتفق على خطة في سبيل إعلاء كلمة الحق "، (11) وهذا لفظ لراو ثقة فيما يروي من خبر الدعوة الإسلامية في السنغال.

وهناك حديث آخر مروي من داع آخر زار السنغال ووقف على القائمة الطويلة للحركات والجمعيات الإسلامية في البلاد، ثم قال متندرا وساخرا: " ما أفقه دعاة السنغال، وأعلمهم بكتاب الله، ما من آية في كتاب الله إلا اقتبسوا منه اسما لجماعة أو حركة ". (12)

وواقع الدعوة الإسلامية شاهد على تفرق الدعاة وتشتتهم، فكل من رأى في جماعة أو حركة زلة أو هفوة، أو خالف داعية في رأي أو اجتهاد في أصل أو فرع تبرأ واعتزل في زاويته ينتظر من يلتف حوله ممن يجمعهم هوى الاعتزال، ليشكلوا بدورهم جماعة أو حركة أخرى تحت اسم جديد أو بدون اسم، لذا فلا تكاد تلقى داعية إلا وفي محفظته خطة لمشروع إسلامي كبير، أو قانون أساسي لمنهج عمل إسلامي رشيد، يبحث عن محسن يمول المشروع، وعن أعضاء وأتباع يجسدون الفكرة، ولعمرو الله لو قدر لإنسان أن يطلع على القوانين الأساسية لأغلب الحركات والجمعيات العاملة في الساحة لضحك لتطابقها وتقاربها، ثم لبكى لتنافر واضعيها وتفرقهم، ومقالنا هذا في الجادين والمخلصين من قليلي التجربة الحركية والفقه الدعوي، من الدعاة من ذوي الهم الإصلاحي، إما المتاجرين بالدعوة ممن لا هم له إلا جمع المال وكسب الجاه فهم العوائق الحقيقية لوحدة العمل الإسلامي في السنغال، وذلك لتبعية أهدافهم وتوجهاتهم لأهواء الجهات المانحة، إذ يلبسون لكل بلد يقصدونه لبوسه المناسب، ويخاطبون كل ممول يلقونه بلهجته، ويعزفون لكل جمهور على الوتر الذي يهواه، وأين هؤلاء من أصحاب الهمم العالية والمبادئ السامية ممن لم يدب - إليهم لغفلة أو شبهة - داء الاختلاف والتفرق، فيفشل خططهم ويذهب ريحهم؟

وتلك قصة فرقتنا رويناها مختصرة خوف الفضح أو الافتضاح، والله يستر ويغفر في الدنيا والآخرة.

وأما إذا لم يحصل هذا التفرق والتشتت في الأشخاص والبرامج جاء بدله تحزب ممقوت للتجمعات والأشخاص، وولاء وبراء على اجتهادات واختيارات في مسائل ومواقف لا يشنع فيها على مخالف أو يضلل فيها من لم يوالف، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن لا يعترف لعالم بعلم ولا لفاضل بفضل ما لم ينتمِ لحركته أو ينضم لجماعته، أو يعتقد انحصار الحق والصواب في اختيارات قادته العلمية ومواقف حركته العملية، فقطعوا أمرهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

المطلب الثالث: قلة الإمكانيات. إن الدعوة إلى الله تتطلب توفر الإمكانيات المادية والمعنوية، فالدعوة بدونها تبقى مجرد أفكار جميلة، ومشاريع وهمية، لا تحقق أبدا في الواقع العملي، والاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية من الأفراد المتطوعين أو المؤسسات أو الدول المانحة، له سلبيات هو الآخر تنعكس كثيرا على توجهات الدعاة وقراراتهم، ذلك لأن أغلب مصادر الأموال هم من أصحاب المناهج وحملة الدعوات، وقد لا يكتفون ممن يقدمون إليهم مساعداتهم الاستقامة على الكتاب والسنة بالجملة، والأمانة والصدق في خدمة الدين، بل كثيرا ما يتدخلون في السياسات التفصيلية والمواقف الاستراتيجية مما روعي في اختيارها ووضعها مقاصد الشريعة ومصالح المسلمين، وقدرات الدعاة ومواقع في بيئاتهم، فيطالبونهم بتغيير كذا من الأعمال، أو بترك فلان من الدعاة، أو التخلي عن طريقة معينة أو منهج بذاته و إلا...

والدعوة الإسلامية في السنغال مفتقرة إلى الإمكانيات الكفيلة بتنفيذ برامجها ومشاريعها الكثيرة، إذ هي في حاجة إلى مؤسسات تعليمية راقية، ومساجد ومراكز دعوية وتربوية واسعة، ومستشفيات وملاجئ للأيتام واللقطاء كافية، بل إنها في حاجة إلى كفالة الدعاة من أئمة المساجد والمدرسين والمربين ليتفرغوا للدعوة إلى الله، ولا يلجئونهم إلى اشتغال بتجارة أو زراعة لفقر أو عوز، وكل ذلك وغيره من حاجات الدعوة ومشاريعها لابد لها من مصادر مالية مستقرة ومستقلة، تضمن استمراريتها، وتحقق أهدافها بمشيئة الله تعالى وتوفيقه، وليس بيد الدعوة شيء من ذلك مع الأسف الشديد، وقد ازداد الأمر استفحالا بعد أحداث 11 من سبتمبر 2001م في نيويورك وواشنطن، وإعلان الرئيس جورج بوش الابن الحرب على ما أسماه ( الإرهاب )، فأقفلت مكتب بيت الزكاة الكويتي، ثم مكتب مؤسسة الحرمين الخيرية، ومنع الخير، وصد عن السبيل، واعتدى الآثمون على الدعاة والأرامل واليتامى، وقدموهم فرائس رخيصة لوحوش الضلالة، وقرابين لأصنام البيت الأبيض، كي يرضى عنهم كبير الآلهة بوش.

وهذه الضائقة المالية الملمة بالدعاة في السنغال، في هذه الظروف، وإن كانت في حد ذاتها مصيبة، فإن فيها عبرا ودروسا نرجو أن يحسن الإخوة الاستفادة منها، ولعل من أهمها ترك الاعتماد الكلي على المساعدات الخارجية مهما كانت سخية، ووجوب إحياء روح الجماعية والشورى في جميع الأعمال الدعوية.

المبحث الثاني: التحديات الخارجية:

وتحته ثلاثة مطالب، سوف نتناول عبرها النوع الثاني من التحديات التي أمام الدعوة الإسلامية المعاصرة في السنغال مما هي نابعة من خارج الدعوة والدعاة، وإن كانت قريبة منهم، لأنها من داخل البلاد، أو من أهل الملة ربما، ولا غرابة فظلم ذوي القربى لأصحاب الدعوات والمبادئ السامية في كل زمان ومكان من لدن زمن الأنبياء إلى يومنا هذا، والله المستعان.

المطلب الأول: الزعامات الصوفية.نعم، إنه لمن الطبيعي أن تكون بعض الزعامات الصوفية عقبة أمام الدعوة الإسلامية السنية، هذه الدعوة التي تضع في قائمة أولوياتها، تحرير الناس من عبادة الطواغيت إلى تحقيق التوحيد، وإخراجهم من ضيق سبل الضلالة والبدع إلى سعة الإسلام وأنوار السنة المحمدية، امتثالا لقوله تعالى:" قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " (13)

لذا فإن أي فكر أو مذهب عقدي مخالف لما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويحول دون انتشار عقيدة التوحيد واتباع السنة يعتبر من التحديات الجسيمة للدعوة الإسلامية في كل مكان، وفي السنغال خاصة، حيث القوة والمكانة السياسية والاجتماعية للزعامات الصوفية، التي يجهل قدرها من لم يعرف حقيقة الواقع السنغالي، إذ لم يبق رموزها حبيس الزوايا والخلوات، دون أن يكون لهم تأثير في سير جميع شؤون البلاد، وإذا كان الناس في ماضي السنغال يأخذون العلم من مؤلفات الصوفية، ويتخذونهم السند الاجتماعي الذي يتولى عقد الأنكحة، وتسمية المواليد، والصلاة على الجنائز... إلخ (14)، فإن زعاماتهم اليوم غدت هي الموجه الرئيس لحياتنا السياسية، نظرا للطاعة السامية التي يمنحهم إياها الأتباع، وهم بمثابة ورقة رابحة يسعى المترشحون لرئاسة الدولة وغيرها إلى اكتسابها بشتى الطرق والأساليب، وأفضلها رضا الشيخ الفلاني وتزكيته، وأرجو أن لا يفهم القارئ الكريم - ببراءته - أن الذي يرضى عنه الشيوخ دائما هم من يتوفر فيهم صفات الإمام الشرعي أو القائد المسلم، لأن أكثر تلك الصفات تتلاشى أمام الاعتبارات الحزبية وغيرها..

كما أن وعي الشيوخ السياسي لا يرتفع إلى درجة تمييز الأصلح للبلاد من بين المتقدمين للمناصب القيادية من ذوي التوجهات العلمانية، فيأمرون أتباعهم بالتصويت له، من باب ارتكاب أخف الضررين، والدليل على ذلك تغير مواقف بعض أتباع الشيوخ من أحزاب المعارضة، الذين خالفوا الأوامر التي صدرت لترشيح الرئيس ( عبد جوف ) لفترة رئاسية رابعة، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، مما أدى إلى هزيمته النكراء أمام الوعي الشعبي المتزايد، وتحالف القوى السياسية الفاعلة.

وهناك مظهر آخر من مظاهر قوة تأثير الزعامات الصوفية في البلاد يتمثل في تعويقهم للدعوة السنية المعاصرة في البلاد، وهو حادثة حرق أحد المساجد السنية من قبل بعض المتطرفين وضربهم لإمام المسجد وخطيبه، وحرق المصاحف والفرش التي كانت في المسجد دون أن يلقى هؤلاء المجرمين أي رادع قانوني صارم، وملخص القصة هي:

أن خطيب ذلك المسجد ذكر في خطبة له أن طائفة من الصوفية إذا قرئ عليهم القرآن لا يتأثرون به، وإذا قرئت عليهم قصائد شيوخهم يتواجدون ويصرعون، وهذه حالة شيطانية، وفي اليوم التالي أغار بعض أتباع الطوائف الصوفية على المسجد بسياطهم وعصيهم، ففعلوا به وبأهله ما لم يسمع به في تاريخ المسجد الطويل إلا من حرق اليهود للمسجد الأقصى، وهدم الهندوس للمسجد البابري.

ذالكم نزر يسير من دور الزعامات الصوفية المعاصرة في توجيه الحياة بعامة مناحيها في البلاد، ولا داعي للإسهاب، والحر تكفيه الإشارة، وكل خطابنا الدعوي غدت إشارة.

ولكل قاعدة استثناء: وحتى لا يعطي القارئ لجميع صوفية السنغال حكما واحدا، أو ينزلهم منزلة واحدة، فإننا نقدم له نموذجين صالحين من المنظومة الصوفية، من الذرية التابعة لأسلافهم في خدمة الإسلام ونفع المسلمين وهما:

1- الشيخ عبد العزيز سه بن الحاج مالك سه – رحمها الله – والذي كان مشهورا بحرصه على وحدة المسلمين، والدعوة إلى عدم التفرق في الدين بسبب الانتماءات الطائفية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه ثلاثة خصال عرف بها الشيخ واعترف له بها القاصي والداني، وكيف قد سجلت له مواقف شريفة تجسد إيمانه العميق بهذه المبادئ الإسلامية، فقد قام الشيخ عبد العزيز سه – رحمه الله – بزيارة مشهورة إلى الأسرة الخديمية، في مدينة طوبى عاصمة الطائفة المريدية، وصلى في جامعها الكبير خلف الإمام الشيخ عبد القادر امباكي – رحمه الله – رغم معارضة الكثير من التيجانيين لتلك الزيارة لعوامل ليست ببعيدة عن المعتقدات الصوفية، التي أشار إلى بعضها الشيخ في خطبته التي ألقاها على الناس بعد صلاة الجمعة.

ومما يسجل له أيضا دفاعه المستميت عن الكتاتيب القرآنية أمام مكائد المنظمات الصليبية واليهودية، وإيوائه لدعاة الإسلام، وبذله جاهه وماله لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وخير شاهد على ذلك موقفه الرافض لمشروع قرار وزاري لحل الجمعيات الإسلامية، حال دون تطبيقه معارضة من شوور فيه من مشائخ صوفية البلد آنذاك، فجزاهم الله خيرا.

2- الشيخ محمد المرتضى بن الشيخ أحمد بمب امباكي – رحمهما الله – 1920م -2004م الملقب بشيخ الأزهر لبنائه سلسلة من المعاهد الشرعية المنتشرة في أرجاء السنغال، والتي سماها بالأزهر تيمنا بالجامع الأزهر الشريف في جمهورية مصر العربية، كما كان يلقب بالمجاهد الكبير لجهوده الجبارة في دعوة الجالية السنغالية في أوروبا وأمريكا وتوجيههم لخدمة الإسلام، وكذلك دعوة غير المسلمين، بل إنه كما يقول الأخ الداعية أحمد لوم صمب: " يعد من الذين تجاوزوا الحدود التقليدية وتجاوز المريدية، وكان أخا لكل مسلم مهما كانت طريقته أو توجهه المذهبي، وتجاوز السنغال ووصل إلى كل القارات، وتجاوز التدين الشعائري المحاصر في حدود المساجد ودور العبادة التقليدية، وشارك في مطالبة الحكومة السنغالية بإدخال التعليم الإسلامي في المدارس العمومية..." (15)

غير أن الذي يعجبني أنا شخصيا في الشيخ محمد المرتضى – رحمه الله – أكثر من أي شيء آخر هو حساسيته الزائدة حين يسمع أو يرى من أحد ما يقدح في عقيدة التوحيد، أو يخل بمبدأ الوحدة الإسلامية، فكم مرة زجر فيها متحدثا في حضرته فاه بكلمة شركية، أو نبه فيها متحجرا يريد تصنيف جهوده الدعوية وأعماله الإسلامية في دائرة طائفية، حتى اشتهرت في أدبياته ألفاظ تنم عن تجرد في القصد، وبعد في النظر، وانفتاح في التعامل، فقد كان يردد دائما: أن أعماله لله، أن منافعها للمسلمين، وقد لعبت هذين الكلمتين في توجيه أتباعه دورا كبيرا في تصحيح المفاهيم وترشيد الأعمال.

هذا، وسر تميز هذين النموذجين من بين شيوخ السنغال يرجع – في نظري - إلى عاملين هما: كونها من حملة الثقافة الإسلامية المعاصرة وذوي الهم الإصلاحي، ثم علاقات التعاون والصداقة التي تربطهم بالمؤسسات العلمية والدعاة الإسلاميين داخل وخارج السنغال، مما يدفعني دفعا إلى الحديث عنهم في بحث مخصص لجيل الصحوة الإسلامية المعاصرة، وهناك نماذج أخرى غيرهم ممن يمثل مرحلة وسط من الناحية التاريخية والدينية بين فترتين في تاريخ الدعوة الإسلامية في السنغال، أمثال الشيخ محمد الهادي، والشيخ أحمد امباكي، والشيخ محمد المنتقى تال، وغيرهم كثير، من الذين لو أحسنت الصحوة المعاصرة التعامل معهم، لاستفادوا من غيرتهم الإسلامية وسلطتهم الشعبية.

المطلب الثاني: الجهود التغريبية.

هناك جهود تغريبية تبذل من عدة جهات، لإحلال الحضارة الغربية محل الحضارة الإسلامية الراقية، بواسطة مكر خبيث ذي ثلاث أجنحة تتمثل في العلمانية، والإعلام، ومناهج التربية والتعليم، ودور هذه الثلاثة في صرف الناس عن تحقيق التوحيد، و تطبيق تعاليم الإسلام غير خاف على أحد، وهذا خبر ذلك المكر الخبيث:

أولا العلمانية:

لا أظن أن مسلمين واعيين يختلفان في خطورة العلمانية على الحياة الإسلامية بعامة، ولعل أهون أخطارها أنها تسلب جماعة المسلمين ركنا أساسيا من أركان سيادتها ألا وهو استقلالية الحكم، فهدف العلمانية هو إقصاء أحكام الله تعالى عن الحياة، وعدم اعتبارها في أي قول أو عمل، وهي كما عرفها المتخصصون " فصل الدين عن الحياة، أو إقامة الحياة على غير الدين "(16).

وتاريخ العلمانية في السنغال مرتبط بدخول المستعمر الفرنسي إليه، وما تلاه من تقليص بقايا الحكم الشرعي في بلاط الملوك المسلمين، الذين كانوا يعينون من العلماء من يتولى القضاء بين الناس، وكانوا يعرفون ب ( خال ) وهو لفظ عربي محرف أصله القاضي، كالقاضي ممر أنت سل والد الشيخ أحمد بمب – رحمهما الله، والقاضي مجخت كل، وغيرهما، هذا فضلا عن دولة (ألمام) أي: الإمامة الإسلامية التي حكمت بعض مناطق السنغال مدة من الزمن.

ومجال العلمنة عير مقصور على الحكم والسياسة فقط كما يظن البعض، بل أن من أخطر مجالات العلمنة التربية والتعليم، حيث ظلت السياسة التعليمية في السنغال منذ الاستقلال إلى سنة 2001م لافظة لمادة التربية الإسلامية، رغم تكرر المطالبات الشعبية لذالك طيلة عشرين كاملة.

ولم يزل أعداء الله يمدون المصغون إليهم في الغي، ممن صدق عليهم إبليس ظنه، ممن عهد إليهم حكم البلاد وقيادة العباد، حتى أعرض المسلمون عن العقيدة الإسلامية، واتبعوا سنن اليهود والنصارى، وانحسر مفهوم التوحيد والطاعة عند أكثرهم، حتى أصبحوا لا يرون أدنى بأس في استبدال القوانين الوضعية الكفرية بالشريعة الإسلامية الغراء، وإلا كيف يتصور من شعب يمثل عدد المسلمين منه خمسة وتسعين بالمئة، يتحاكمون في الدماء والأعراض وسائر المعاملات والتشريعات إلى دستور علماني، ويرمون النبلاء من دعاة الإسلام بشتى التهم حين يطالبون بإعادة الحكم الإسلامي المتعلق بالأحوال الشخصية، وتعديل بعض مواد الدستور المتعارضة مع الشريعة الإسلامية، كما في هبتهم الأخيرة

ثانيا: الإعلام: إن إعلام إي أمة ذات سيادة مطلقة يجب أن تكون متكلمة بلسانها، ومعبرة عن أحاسيسها، وملبية لحاجاتها، ومتى فشل الإعلام في التحقق بهذه المواصفات لا تصح نسبته إلى تلك الأمة، ولا شك أن أغلب السنغاليين مسلمون، وذلك ما يمنحهم حق تلقي الرسالة الإعلامية التي لا تتعارض مع عقيدتهم وأخلاقهم، من المؤسسات الإعلامية الوطنية، غير أن الواقع خلاف ذلك، فالبرامج الهادفة في إعلامنا شحيحة جدا، لأن أغلبها ما بين مسلسلات هابطة، أو أغاني ماجنة، أو برامج ثقافية وفكرية، تمارس خلالها غزوا فكريا ضد المسلمين، مع مجارات تامة لطرائق الإعلام الغربي في تناول الأحداث التي تهم الأمة الإسلامية، مثل القضية الفلسطينية، والجهاد الأفغاني، والحرب الأمريكية ضد العراق، حيث مورس نحو المتلقي السنغالي المسلم تضليل إعلامي لا يدعه ليتملك التصور الصحيح لهذه القضايا المصيرية بالنسبة للأمة الإسلامية، فلا يرى من القضية الفلسطينية إلا وحشية الشباب القسامي حين يقدم على تفجير نفسه داخل ثكنة لجنود بني صهيونيين، كما يظن أن الحرب الأمريكية على أفغانستان والعراق سببها الإرهاب الذي يمارسه ابن لادن، أو أسلحة الدمار الشامل العراقية...، نعم هكذا هيئ له أن ينظر إلى الأحداث، إلى أن جاءت الإذاعات الحرة التي أحدثت نقلة إعلامية مشهودة في السنغال، فسمعت أصوات الدعاة من هنا وهناك، تدعو إلى التوحيد، واتباع السنة، كما تحلل، وتناقش، وتحاور، في المسائل السياسية الداخلية والخارجية، غير أن الفرص المتاحة للدعاة إلى الآن غير كافية، إذ الموجود منها لم يستغل استغلالا جيدا، نظرا لاختلاف الطروحات المقدمة من الإسلاميين، وغياب التنسيق بينهم، بل وعدم تأهل بعضهم لتناول بعض القضايا التي يخوضون فيها، وهذا كله لم يكن ليحصل لوما صدت أمام الدعاة الطرق وغلقت الأبواب، ومنعوا من امتلاك إذاعات حرة، فضلا عن قنوات فضائية يدعون من خلالها إلى الله.

ثالثا: التعليم: التعليم في السنغال على أنواع منها:

1- تعليم إسلامي: تقوم به مدارس ومعاهد أهلية، تتبع في الغالب مؤسسات دعوية أو دعاة أفراد، وتهدف إلى تعليم الدين الإسلامي ونشر الثقافة العربية، غير أن شهادات أكثرها غير معترفة، ولا ترشح حاملها للعمل في الوظائف الحكومية، ومناهج الدراسة فيها مقتبسة من مناهج الدراسة في المغرب وتونس ومصر والكويت والمملكة العربية السعودية، وهي في الجملة تحتاج إلى تعديلات جذرية لتخدم أهداف التربية الإسلامية الحقيقية، ولاشك أن فشل المؤسسات التعليمية الإسلامية شيء مفرح لأعداء الإسلام، ولذلك لا يفتئون يبرزون للمجتمع سلبياتها، ويراهنون على مستقبل خريجيها، ويحولون دون إي محاولات جادة لإصلاحها وتحديثها.

2- تعليم كنسي: يعد من أكبر وسائل التنصير وأنجعها، ويهدف إلى تعليم العلوم العصرية مع التربية على مبادئ الديانة النصرانية.

3- التعليم العام: في المدارس الحكومية، ويهدف إلى تعليم العلوم العصرية، ونشر الثقافة الغربية، وهو فقط المجاني في جميع مراحله من بين الأنواع الثلاثة المذكورة، وهذا مما أكسبه إقبالا من عامة الشعب السنغالي،.

4- التعليم العام الأهلي: ومناهجها لا تختلف في المناهج عن المدارس الحكومية، وأغلب تلامذته من الذين فصلوا من المدارس الحكومية لأسباب أكاديمية أو إدارية.

والتعليم العام بنوعيه الحكومي والأهلي تعليم علماني متنكر للدين الإسلامي ومعاد له، وما يدرس فيها من مادة التاريخ الإسلامي مشوه إلى حد كبير، وقد يكون سببا لبغض الإسلام ورجاله، ذلك لأنه مقتبس من كتابات المستشرقين الذين لا يراعون أبسط قواعد البحث العلمي من الموضوعية والأمانة العلمية حين يكتبون عن الإسلام، أضف إلى ذلك ما يحشى به تلك المناهج من تعليم المذاهب الفكرية الإلحادية، والفلسفات الغربية، والتي لا تغرس في أذهان الطلبة والتلاميذ إلا الحيرة والشك، والكفر ربما.

المبحث الثالث: الحركة التنصيرية.إن من أخطر التحديات الخارجية للدعوة الإسلامية المعاصرة تلك الحركة التنصيرية التي تنشر بين الشعب السنغالي عقيدة التثليث، وتتستر بأقنعة متنوعة كالإغاثة أو التعليم أو نشر المبادئ الإنسانية.

والحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها هي أن الاستعمار والتنصير وجهان لعملة واحدة، وتناصرهما على ممارسة التضليل منذ دخولهما إلى السنغال أمر مشهود، وحماية بندقية المستعمر لصليب القديس دليل قاطع على هذه الدعوى، يقول الباحث السنغالي صمب درامي: " دخل المنصرون إلى السنغال مع المستعمرين وتحت حمايتهم، وذلك منذ منتصف القرن السابع عشر الميلادي، عندما احتل الفرنسيون مدينة ( اندر) على الساحل الشمالي للبلاد عام 1659 م، وكان أولى خطواتهم التنصيرية أن غيروا اسم المدينة، وأطلقوا عليها اسم القديس ( لويس ) واتخذوها كالمحطة الأولى للانطلاق داخل السنغال، وإلى كافة أفريقيا الغربية " (17)

ومنذ تلك الفترة وإلى الآن وأعمال المنصرين تتوسع وتتوغل إلى مناطق البلاد الشاسعة، وتتوافد إلى السنغال منظمات تنصيرية عديدة، تقودها منصرون من الدرجة الأولى، حتى جاء ذلك اليوم الذي زار فيه البابا يوحنا الثاني، ليبارك جهود جنود الدوليين والمحليين، ولقد لوحظ بعد هذه الزيارة ازدياد في الأنشطة وتوسع في المجالات.

هذا ولقد استطاعت الحركة التنصيرية أن تكسب ثقة شريحة من المسلمين كبيرة بمؤسساتها التعليمية التي تتمتع بالجودة والتنظيم والانضباط أكثر من المدارس الحكومية والأهلية (18)، وهذا بدوره ما جعل هؤلاء المخدوعين من الآباء يزجون بفلذات أكبادهم في أحضان القسيسين، في مؤسسات تنصب في أرجائها الصلبان والتماثيل، وتقتل فيها الغيرة الإسلامية، كما تمارس فيها بالنيابة عملية التنصير لكل مولود على الفطرة والحنفية السمحة، وذلكم صنيع الحركة التنصيرية في العاصمة والمدن الكبيرة، أما عن نجاحها في القرى و الأرياف فحدث ولا حرج، حيث استغلت الكنيسة فقر تلك المناطق وتخلي الدعاة عنها لتنصير الوثنيين و بعض القبائل العريقة في التدين بالإسلام مثل ( ولوف ) و ( فلاتة )، ونختم الكلام عن المنصرين بسابقة خطيرة في السنغال وهو تنصر أحد مدرسي اللغة العربية من خريجي الجامعات العربية وتحوله إلى عامل نشيط مع المنصرين في منطقة ( دار جلف ) والله المستعان.

 

الهوامش:

1 - السنغال من منظور جغرافي، تأليف / شيخ امباكي جاي، ص 20- 21

2- السنغال والثقافة الإسلامية، تأليف / جورتي سيسي، ص 9 ط / دار شمس المعرفة للطباعة والنشر.

3- التعليم الإسلامي في السنغال، إعداد / د. محمد أحمد لوح، ص 21 ( مطبوع بالحاسب الآلي)

4 - المسلمون في السنغال معالم الحاضر وآفاق المستقبل، تأليف / عبد القادر سيلا، ص 129 ط / رئاسة المحاكم الشرعية بدولة قطر.

5 - لقب لطلبة العلم، وترجمته بالعربية: أبناء السيدات.

6 - أنظر: أضواء حول التعليم العربي في السنغال، إعداد / النقابة الوطنية لمدرسي اللغة العربية في السنغال، ص 19 ( مطبوع بالحاسب الآلي )

7 التعليم الإسلامي في السنغال، إعداد د. محمد أحمد لوح ص 24 ( مطبوع بالحاسب الآلي )

8 - التعليم الإسلامي في السنغال، إعداد: د. خديم امباكي، ص: 10

9- راجع كتاب: المسلمون في السنغال ضمن سلسلة كتاب الأمة ص 156- 157

10- سورة آل عمران، الآية 165

11- المسلمون في السنغال ص: 181

12- هذا الكلام منسوب إلى الداعية الإسلامي عمر النصيف

13- سورة يوسف الآية: 108

14- التصوف والطرق الصوفية في السنغال للدكتور خديم امباكي ( مخطوط )

15- قاله في مقال بعنوان / الشيخ محمد المرتضى النجم الذي هوى: مجلة الأزهر العدد 12 – ص 22- نوفمبر - 2004 م

16- العلمانية. تأليف سفر بن عبد الرحمن الحوالي ص 24

17- التنصير في السنغال: ص 10

18- انظر: التنصير في السنغال، إعداد / د. خديم امباكي ص 12

 


المصدر: منتديات سبيس باور نقلاً عن "موقع التاريخ".

 

 

12 شخص قام بالإعجاب



شاهد أيضاً