كيف ينظر الداعية إلى المدعوين؟مقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

يحتاج كل داعية أن يكون إجابة هذا السؤال مستقرَّةً في ذهنه ، ويستحضرها في التعامل مع عموم الناس تعاملًا وسطًا ، بعيدًا عن المثالية ، والإفراط والتفريط ؛ فلا يوجد إنسان معصوم من الخطأ ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) رواه ابن ماجه .

فعلى الداعية أن يكون تعامله مع الناس بواقعية ، ومن الخطأ النظرة إلى الناس أو التعامل معهم بمثالية ، وإن على الداعية أن يُدرك أحوال المدعوِّين ، والفروق بينهم ، واختلاف طبائعهم ، وأنه يتعامل مع نفوس بشرية ، ونفوس الخلائق عجيبة ، ومداخلها كثيرة ومعقَّدة ، ولكلٍّ منها مَدْخَلٌ ومِفتاح لو مَلَكه الداعية ، لاستطاع جذب المدعوِّ إلى طريق الخير والطاعة ، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اختلاف طبائع الناس بقوله : (( النَّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ ، خِيارُهُمْ في الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا )) متفق عليه .

ويجب على الداعية أن يسبر أغوار نفوس المدعوين ، فيعلم داء كل منهم ؛ حتى يجد له الدواء الذي يصلحه ؛ فمَثَلُ الداعية مَثَلُ الطبيب ، يعلم الداء والدواء ، فيقدّم للمدعوين ما يناسبهم من علاج ، وما يُصلح أحوالهم .

فأما المسلمون فقد ذكر الله تعالى أنهم ثلاثة أقسام في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ فاطر: 32 ] .

وإن أخوَّتهم الإيمانية باقية مهما كانوا على معصية ، فالمحبة والنصرة لا تنتفي إلا بانتفاء الإيمان بالكلية ، ولا تنتفي بالبدعة والمعصية .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – "مجموع الفتاوى (28/ 208 ، 209) " : " والمؤمن عليه أن يعاديَ في الله ويواليَ في الله ، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليَه وإن ظلمه ؛ فإن الظُّلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا . . .} [الحجرات :9] فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي ، وأمر بالإصلاح بينهم ، فليتدبَّر المؤمن أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك ؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل ، وأنزل الكتب ؛ ليكون الدين كله لله ، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه ، والإكرام والثواب لأوليائه ، والإهانة والعقاب لأعدائه .

وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشرٌّ ، وفجور وطاعة ، ومعصية وسنة وبدعة ، استحقَّ من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ؛ كاللص تُقطع يده لسرقته ، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ، هذا هو الأصل الذي اتَّفق عليه أهل السنة والجماعة ، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم " .

وأما الكافر فقد فطر الله الخلق على قبول الحق ؛ فكل إنسان يولد على الفطرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ )) متفق عليه .

فالإنسان مهيَّأ بطبعه لاستقبال رسالة الإسلام والحق ، والاستجابة لها ؛ ولكن تختلف درجات الاستجابة بحسب درجة انتكاسة فطرته أو استمراره عليها ، بين من يستجيب مباشرة للحقِّ ، ومن يحتاج إلى تفكير وتأمُّل فيتأخر في استجابته ، ومن يُعرض عن الحق ، ومن يعاند ويكابر .

وحتى هذا المعاند والمكابر مهيَّأ للاقتناع والاستجابة ، وترى ذلك عندما يتعرَّض لبلاء يعلم أنه لا ينجِّيه منه إلا الله تعالى ؛ قال تعالى : {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت : 65] .

ومن ثم فعلى الداعية النظر إلى الناس نظرة تفاؤل ، لا نظرة يأس وتشاؤم ؛ لأن التشاؤم واليأس يُقعد عن العمل والنصح ، فيزيد بذلك الشر ، والتفاؤل يبعث على العمل ، فيزيد بذلك الخير ؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : (( كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ الْحَسَنُ )) رواه أحمد وابن ماجه .

- لا جرم أن النقص في جوانبَ من الخير في الناس ، لا يعني انعدام الخير في جوانبَ أخرى ؛ فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ اسْمُهُ عَبْدَاللَّهِ ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا ، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْمًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - : (( لَا تَلْعَنُوهُ ؛ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )) رواه البخاريُّ .

فلم ينفِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل الخير ، وأنه يحب الله ورسوله ، رغم كبيرة شرب الخمر أمِّ الخبائث ، حتى إنه جُلد على شربها .

- وعلى الداعية النظر إلى الخير في الناس ، وإلى الخير الراجح في كثير من الجوانب ، والتعامل مع أخطاء الناس بإيجابية ؛ قال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : ( جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأُهْرِيقَ عَلَيْه ِ) رواه البخاريُّ .

فقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأعرابيَّ يُكمل بوله ؛ فهذا أقلُّ مفسدةً وأصلح له ؛ فقطع بولته قد يضرُّه وينجِّس ثيابه وبدنه ، وينجِّس من المسجد مواضع أكثر .

- وينبغي للداعية أن ينظر إلى الناس بعين الشرع وعين القدر ؛ يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله – " مجموع الفتاوى والرسائل (90 ،89/26) " : "ينبغي لنا أيها الإخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين : عين الشرع ، وعين القدر ، عين الشرع ؛ أي : لا تأخذنا في الله لومة لائم ؛ كما قال تعالى عن الزانية والزاني : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [النور : 2] ، وننظر إليهم بعين القدر ، فنرحمهم ونرقُّ لهم ، ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود ، وزوال المكروه ، وهذا من آثار طالب العلم ، بخلاف الجاهل الذي عنده غَيرة ؛ لكن ليس عنده علم ، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة ؛ مجموع الفتاوى والرسائل (90 ،89/26) .

فعلى الداعية أن يتعامل مع الناس بواقعية وإيجابية ، لا بمثالية تجعله ينحو نحو اعتزال الناس وتركهم ، أو عدم الرفق بهم ، والحدَّة عليهم ومواجهتهم بغير الحكمة والموعظة الحسنة .

3 شخص قام بالإعجاب