الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن من أكثر الكلمات الدينية تداولاً في العصر الحاضر هي : الشدة والتشدُّد والتطرُّف ، ومن أشد المصائب التي ابتُلي بها الناس في هذا الزمان أن الحكم على الشدة واللين – لدى كثير من الناس، وخاصة في الإعلام - صار بالهوى والذوق ، يحكم بهما أيُّ إنسان على ما يستهويه بأنه لين ، وما لا يستهويه بأنه تشدد .
وإذا اختلَّ مقياس الشدة واللين ، وصار بالهوى والتذوق ، فكيف يصحُّ الحكم ؛ فهل يستقيم الظل والعود أعوج ؟!
إن مقياس الشدة واللين في الإسلام والدعوة إلى الله تعالى هو هَدْيُ النبيِّ - صلي الله عليه وسلم – وهدي أصحابه – رضوان الله عليهم - هذا هو شرع الله تعالى ؛ فاستقم كما أُمرتَ ، لا كما رغبتَ .
ففي الحديث عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : ( ما خُيِّرَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا أخَذَ أيْسَرَهُمَا ، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا ، فإنْ كانَ إثْمًا كانَ أبْعَدَ النَّاسِ منه ) رواه البخاريُّ ومسلم .
ترى فَهْمَ هذا الحديث ممن يجعلون مقياسهم للأيسر ، أو التيسير والتشديد ، الهوى والتذوُّقَ ، يبترون الكلام ، ويفصلون ما اتصل وتلاحم من الجُمَل ، فيتحدَّثون عن قولها – رضي الله عنها - : ( أخذ أيسرهما ) ، دون قولها : ( ما لم يكن إثمًا ) ، يبترون الكلام الواضح الذي يبيِّن أن اختيار النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للأيسر مشروط ببُعده عن الإثم .
قال ابن حجر – رحمه الله - : " أي : ما لم يكن الأسهل مقتضيًا للإثم ، فإنه حينئذ يختار الأشد " اهـ .
بل لو كان الأيسر مكروهًا لما أخذ به ؛ لأن المكروه قريب من الإثم ؛ قال النوويُّ – رحمه الله - : "فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حرامًا أو مكروهًا " اهـ .
إذن؛ ذلك الاختيار المذكور في حديث عائشة – رضي الله عنها - إنما يقع - في الغالب - في الأمور الدنيوية ، من أمور المعاش والمعاملات ونحو ذلك مما يخرج عن دائرة العبادة .
قال العيني في " عمدة القاري (22/ 168) " : " ( مَا خُيّر بَين أَمريْن إِلَّا اخْتَار أيسرهما ) يُرِيد فِي أَمر دُنْيَاهُ ؛ لقَوْله : ( مَا لم يكن إِثْمًا ) ، وَالْإِثْمُ لَا يكون إلَّا فِي أَمر الْآخِرة . قَالَ الْكرْمَانِيُّ : كَيفَ خُير رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - بَين أَمريْن أَحدهمَا إِثْم ؟ ثمَّ أجَاب بقوله : التَّخْيِير إِن كَانَ من الْكفَّار فَظَاهر ، وَإِن كَانَ من الله تَعَالَى أَو من الْمُسلمين فَمَعْنَاه مَا لم يؤدِّ إِلَى إِثْم ؛ كالتخيير بَين المجاهدة فِي الْعِبَادَة والاقتصاد فِيهَا ، فَإِن المجاهدة بِحَيْثُ تنجر إِلَى الْهَلَاك غير جائزة . وقال عياض : يحتمل أن يخيِّره الله تعالى فيما فيه عقوبتان ونحوه ، وأما قوله : ( ما لم يكن إثمًا ) ، فيتصوَّر إذا خيَّره الكفَّار " اهـ .
وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري (8/ 405)" : " وقولها : ( ما خُير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا ) : يُحتمَل أن يكون هذا التخيير ليس من الله ؛ لأن الله لا يخيِّر رسوله بين أمرين عليه في أحدهما إثم ؛ فمعنى هذا الحديث ما خيَّر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بين أن يختار لهم أمرينِ من أمور الدنيا على سبيل المشورة والإرشاد إلا اختار لهم أيسر الأمرين ما لم يكن عليهم في الأيسر إثم ؛ لأن العباد غير معصومين من ارتكاب الإثم " اهـ .
وعليه ؛ فلا دلالة في هذا الحديث على مشروعية الأخذ بالقول الأيسر مطلقًا دون نظر إلى مرجِّحات أحد القولين على الآخر ؛ فلو كان الأمر كما يذهب إليه من يبترون الكلام في الحديث ، لما كان ثمة حاجةٌ للعلماء والمفتين وطلبة العلم للتعرُّض لمعرفة المرجِّحات ، وعليهم حذف مباحث الترجيح من مصنَّفات أصول الفقه .
وإذا كان المؤمن يتَّبع هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في سائر أموره ومفاهيمه ، فعليه اتباع هديه وسنته في أقواله وأفعاله وتقريراته وسائر أحواله - صلي الله عليه وسلم – ولنبحر في سنته لنرى هديه صلى الله عليه وسلم – في ذلك :
فقد حض النبي صلى الله عليه وسلم على التيسير بقوله : (( إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا ، وَأَبْشِرُوا ، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ )) رواه البخاريُّ ، ولما بعث معاذًا وأبا موسى الأشعريَّ إلى اليمن قال : (( يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا ، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا )) رواه البخاري ومسلم .
وعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَت : اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ اليَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ – فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ [ السام بمعنى الموت ] فَقُلْتُ : بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ : (( يَا عَائِشَةُ ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ )) ، قُلْتُ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : (( قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ )) رواه البخاري ومسلم .
ومن ثم فإذا دار أمر الداعية بين استعمال الشدة أو الرفق واللين مع المدعوِّ ، كان الأَولى استعمال اللين والرفق واليسر اتباعًا لهديه - صلى الله عليه وسلم - وإلا فردُّ فعل المدعوين سيكون النفور ، ومجازاة الشدة بمثلها ، والانتصار للنفس .
أما ما يحدث من كثير من الناس اليوم من النظر إلى الطاعات والنوافل والعمل بالسنَّة على أن ذلك من التشدد ، لدرجة النهي عنها أحيانًا ، فهذا خارج عن الشريعة ، وكذلك عكس هذا الأمر من إلزام الناس بالمستحبات وجعلها فروضًا ، فذلك تشدد ، وغلو وتنطُّع؛ يقول النبي - صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ – : (( إيَّاكم والغُلوَّ في الدِّين ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغُلوُّ في الدين )) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْن مَاجَه ، وَصَحَّحهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَقَالَ : عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ .
وعن ابن مسعودٍ رضي اللَّه عنه أن النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ )) قالَهَا ثَلاثًا . رواه مسلم .
معناه : الزيادة على ما شرعه الله ، وإلزام الناس به ، هذا هو التشدد في الشرع ، يزيد على ما شرعه الله .
وهذا غير الورع المحمود بأن يكثر الإنسان من الطاعات والنوافل واتباع السنن؛ بل إن تقوى الله تعالى تحمل صاحبها على التحرِّي والاحتياط لدينه ، فتجده يجتنَّب الشبهاتِ ؛ خوفًا من الوقوع في الحرام ، ويدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس ، وهذا لا يخرج عن معنى الورع المحمود .
أما التشدد المذموم فإنما يكون بتحريم الحلال ، ويكون بالمبالغة في التعبد بأن يأخذ العبد من الفضائل ما لا يطيق ؛ فدين الله يسر ، وقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحنيفية السمحة .
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّهَا قَالَتْ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : (( أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ )) ، وَقَالَ : (( اكْلَفُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ )) رواه البخاريُّ ومسلم .
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.