الإيمان والإلحادمقالات

عبدالباقي سرور نعيم

يشهد تاريخ الإلحاد بأنه لم يستطع استمالة أمَّة، أو استغواء شعب؛ بل غاية أمره ومنتهى جهده أن يستميل فردًا شهوانيًّا، أو يستغويَ شخصًا مموهًا.

إن عقلاء الأمم بأسرها كانوا في كل عصر ذوي إيمان صادق، وزعماء الشعوب كانوا في كل وقت من أولي الإيمان والتديُّن. أما الجماهير والجماعات وسواد الأمم وغالبية الشعوب، فهم جميعًا يحتقرون الإلحاد، وينبذون أهله، ويقفون في طريق دعاته.

وإذن؛ فالإلحاد لا يعيش إلا في أدمغة شاذَّة منفردة، فهو لا يصلح أن يحل محل الدين، وأن يقوم مقام الديانات، بذلك ينطق تاريخ الإلحاد، وعلى ذلك أطبق الناس جميعًا.

إذن؛ فعلامَ يسعى بعض الملحدين في نشر إلحادهم، ويبذلون جهودًا شاقة في سبيل إذاعة أوهامهم.. هل للإلحاد نظام يصحُّ أن يهديَ الناس إلى السعادة في الدنيا؟ وهل له صلة بالحياة الأخرى؟ إنه ليس له نظام يدعو إلى السعادة، ويؤدِّي إلى راحة المجتمع؛ لأنه هدم للعقائد، ومحو للفضائل، وتخريب لما بين العبد وربه، وقطع للاتِّصال بالدار الآخرة، فهو يناقض البناء ويضادُّه.

وهل قام العمران إلا على ما أقامته الأديان في نفوس الناس من العمل على التعاون والتعاضد، وحبِّ الخير، وصدق الحديث، واحترام الناس والمال والعرض والدين والعقل، وصلة الرحم، وبر الوالدين، والرأفة بذوي القربى، وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يسود السلام في الأرض، وتستقرَّ السكينة بين الأفراد، وأن تحترم الشرائع وتقام العبادات، وتستقر الفضائل، وتنشر مكارم الأخلاق، ذلك ما تأمر به الأديان، فما الذي ينتظر من وراء انتشار الإلحاد وذيوعه؟ أينتظر من وراء انتشاره إقامة المساواة والإخاء والعدل بين الناس، وهو لا يأمر إلا بالعدم، وهدم المساواة، وهدم الإخاء؛ لأنه يدعو للفوضى، وهي شرُّ ما تُبتلى به الإنسانية، ومن المحال أن يسود العدل مع الفوضى، وأن ينتشر السلام معها، وأن يستقر الإخاء في ظل نفوذها، فأسس السلام لا تستقيم مع الإلحاد، كذلك مكارم الأخلاق يستحيل أن تعيش في جوِّه.

أما العبادات وما يتعلَّق بالدار الآخرة، وما يرجع إلى استشعار عظمة الله ورجاء رحمته، والخوف من عقابه، فأمور يمحوها الإلحاد من على وجه الأرض.. ومن هنا يتبين لك أن الإلحاد يستحيل أن يكون نظامًا للجماعات، أو دينًا للجماهير، أو شريعة لبني الإنسان، أو سلوة لبني آدم، أو فكرة نافعة في الأرض، أو خيالاً محبوبًا للناس، أو أغنية يُلهى بها الأطفال؛ بل لا يصلح أن يكون أسطورة تميل إليها النفس ساعة من نهار.

وإذن؛ ففي أيِّ مكان يريد دعاة الإلحاد أن يضعوا إلحادهم؟ وبين أية أمة يريدون أن ينشروه؟

لا غنى للأمم عن دين، ولا حياةَ لها بدونه، فهل يريدون أن ينزعوا من الأمة حياتها، ثم يتركوها تعيش بلا روح ولا حياة؟! على حين أنهم لم يأتوا لها بما ينزل منها مكان الروح أو يقوم فيها مقام الحياة.

إن الملحدين قد خبطتهم فتنة عمياء، لم يكونوا فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، يريدون هدم كلِّ معتقَد دون أن يضعوا للحياة بناء. هل أسَّسوا للإلحاد عقائد؟ فما هي هذه العقائد؟ هل وضعوا له عبادات؟ هل وضعوا له شرائع؟ وإذا لم يكن للإلحاد عقائد ولا شرائع ولا عبادات ولا فضائل، فأيُّ شيء هو؟ وهل بلغ الناس من الحماقة حدًّا يجعلهم يتطوَّعون لاعتناق مذهب غير محدود ولا مفهوم، ليست له قواعد ولا نُظم ولا تفاصيل ولا وسائل ولا غايات ولا نتائج ولا مقدِّمات؟ مذهبٌ أوَّلُه الهدم وآخره الهدم.. ألهذا خُلق الناس؟! وهل يرضى لمثل هذا بنو آدم؟!

في أيِّ أمَّة جرِّب الإلحاد فنجح؟ وفي أيِّ شعب أثمر الإلحاد وأينع؟! ومن هم الملحدون الذين كان على أيديهم تقدُّم الإنسانية؟ وأيُّ زعيم من زعماء الأمم التجأ إلى الإلحاد في حل مشكلة اجتماعية أو أخلاقية أو اقتصادية أو تشريعية؟ وأي نظام من نُظم الإلحاد شهد له المنطق، وأقرَّ بصلاحه العقل؟

وإذن؛ فأيُّ آية أو علامة أو شبهة يستطيع دعاة الإلحاد أن يقدِّموها دليلاً على صلاح مذهبهم؟ وأيُّ دليل يشهد لهم على أن الناس في حاجة إلى ما في أيديهم من الإلحاد؟

لكل مذهب نظام ومنطق، فما هو منطق الإلحاد؟ وإذا لم يكن فيه سعادة للمجتمع ولا منفعة للناس، وإذا لم يشهد العقل بصدقه، ولم تقم البيِّنات على أنه حقٌّ، وإذا لم يكن في ذاته محدودًا ولا واضحًا، وليس بالإنسانية حاجة إليه، إذا لم يكن كل ذلك موجودًا، فعلامَ تلك الضجَّة الإلحادية، وتلك النَّزعات الهادمة؟

إن الإلحاد يحتمل في كيانه دليل بطلانه، ويشهد تصوُّره على فساد أصله. ومذهبٌ هذا شأن دعاته بالخيبة وأنصاره بالهزيمة، و{قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49].


المصدر: (مجلة الفتح، العدد: 1، 10 يونيو 1926)