ضراعة الأبرارمقالات

عبداللطيف السبكي

{وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].

هكذا يحكي القرآن عن الأبرار في ضراعتهم إلى الله، يلهجون بها في سرِّهم وجهرهم، وفراغهم وعملهم، وقيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم.

ومن حقِّ الله على عباده أن يسمعوا ويطيعوا، ومن رجاء العبد في ربِّه بعد السمع والطاعة أن يغفر له ما فرط منه، ويفسح له رحاب فيضه، ويغمره برضوانه.

وفي ذكرهم السمعَ والطاعة قبل سؤالهم المغفرة توجيه لنا إلى السبيل المأمونة، والغاية المرجوَّة، فالعمل وسيلة، والمثوبة غاية، وقد نادانا ربنا أن نأخذ بالوسيلة، ووعدنا من فضله بتحقيق الغاية، فمن تخلَّف عن تلبية النداء فقد استغنى عن الرجاء؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]

وقد عرف الأبرار أولاً أن يستجيبوا لربهم، فساغ لهم أن يبتهلوا إليه بما قدَّموا، ويطمعوا فيما وعدهم، والله يحب أن يسمع الدعاء من أحبائه، وهو بهم رحيم، وبرٌّ كريم، فلن يضنَّ عليهم بالعطاء، ولن يفوِّت عليهم الرجاء، وتعالى الله أن يُخلف وعده.

ولله سبحانه أن يبسط يده لمن أراد، ولو كانت سبيله معوجَّة، وأن يقبضها عمن أراد وإن كان على الجادَّة المثلى، فهو العليُّ الكبير، ولا يُسأل عما يفعل، ذلك شأنه ولا ريبة.

ولكن حكمته فيما دبَّر، وعدله فيما قدر، أن يميز بين الخبيث والطيب، ويعطي كل ذي حق حقه؛ فلن يستوي الأعمى والبصير، كما لا تستوي الظلمات والنور.

غير أن ناسًا أهملوا الوسيلة، ثم هم يطمعون في الغاية.. عللوا أنفسهم بالأماني المكذوبة، وغالطوها في عدله المشهود، فقالوا: يغفر لمن يشاء ويعذِّب من يشاء، وحسبوا أن ذلك إيذانٌ بالتقاعد، وإهمال للحساب، فلهم – على ما زعموا – أن يتَّكلوا، وليس يحجبهم عن الظفر شيء إذا شاء الله لهم المغفرة وسيشاء، وهذه أمنية النفس، وأحلامها الكواذب.

وهل يكون ثمر بلا شجر، وحصاد من غير زرع؟!

فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ = إنَّ الأمانِيَّ والأحْلامَ تَضْليلُ

على أن الله – جلَّت حكمته – لم يرهق عباده بما طلب، ولم يشقَّ عليهم فيما شرع، وما كان له – وقد وسعت رحمته كل شيء – أن يجعل عليهم في الدين من حرج؛ فلم يكلِّف نفسًا إلا وسعها، ولم يحملها فوق مقدورها؛ وإنما هي نيَّات مشكورة، وعبادات ميسورة، وأعمال مأجورة؛ {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41].

فلتأخذ كل نفس بما رضيت، وهي بما فعلت رهينة، لها جزاء ما كسبت من الخير، وعليها وزر ما اكتسبت من الشر، وذلك حكم غير جائر، وهو القسطاس المستقيم بين الله وعباده، وقد أرادا الله للأبرار من عباده أن يواصلوا دعاءه؛ توثيقًا للعهد بربهم، واحتفاظًا بما أمدَّهم من توفيقه، فعلَّمهم أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، وهل بلغ بهم أن يخافوا العقوبة على النسيان والخطأ؟!

معروف أن للمرء زلَّاتٍ، وقد يتراخى فيما ينبغي الاهتمام به من شأن دينه حتى ينسى، ويكون أشبه بغير المبالي، وقد يخطئ في عمل غير سائغ، أو وضع أمر في غير موضعه، وكلا النسيان والخطأ مظهر لعدم الحرص والحيطة، فكان العذاب على ذلك مخوفًا، ورجاء العفو بغية مرموقة.

{رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}: يريدون إذا وقع منا ما فيه الإصر، وهو الذنب، فلا تحمله علينا بتركنا مدينين فيه؛ بل هيِّئ لنا رجوعًا إليك بالاستغفار والتوبة حتى لا نبوء بالإثم، ونقدم عليك حاملين للوزر كما حمله من قبلنا ممن عصوك، ولم يثوبوا إليك، فخرجوا من دنياهم مغضوبًا عليهم منك.

{رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: كلفتنا من أمر ديننا ودنيانا ما نطيقه وما نستطيعه، فنحن ندعو بدوام ذلك شكرًا لك على ما أوليتنا، فاجعلنا دائمًا من القادرين على ما طلبت منا، ولا تجعله ثقيلاً على نفوسنا، ولا عسيرًا بين أعمالنا.

{وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}: فاصفح لنا عما تعلم، واستر علينا ما اجترحنا، وأسبغ علينا رحمتك التي تطيب لها القلوب، وتتلاشى في غمارها الذنوب، وتدرك في ضوئها المباهج، فأنت مولانا الصمد المسؤول، وكن لنا في دنيانا نصيرًا على الكافرين بك؛ حتى نعزَّ دينك، ونعتزَّ به، ونعيش في هديه، ونؤوب إليك، على وفاء بالعهد، وتمام صدق في الإيمان، فإليك المصير والمآب، يا نعم المولى ويا نعم المصير.

ونحن نتأسَّى بالأبرار فيما أشاد به القرآن من مآثرهم، ونرجو على الله أن ينفحنا من هدى كتابه مثل ما منحهم؛ حتى نكون في ظلال رحماته بين الخلف عن خيار السلف.

وربنا الرحمن وهو المستعان.


المصدر: (مجلة الأزهر، 16 محرم 1374هـ، 14 سبتمبر 1954م، الجزء الثاني، مجلد 26، ص71-73)