نظرة المسلم للوقتمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن نظرة المسلم للوقت نظرة فريدة، فليس الوقت هو مجرَّدَ لحظات تمضي، وعمر يمرُّ، نحسبه بالسنين والشهور والأيام أو الدقائق والثواني.. إنه حياة الإنسان، ولله درُّ شوقي حين قال:

دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ = إِنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

وما أعجب أحوالَ الناس اليوم؛ إذ يفرح كثير منهم بمرور عمره ويحتفل بذلك، مع علمهم أن مرور العمر يقرِّبهم إلى آجالهم ونهايتهم وأخراهم، ويبعدهم عن دنياهم!

إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا = وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى جُزْءٌ مِنَ العُمُرِ

ولقد صار حال أكثر الناس في هذا الزمان يُهدرون أوقاتهم ويضيِّعونها، ولا يعرفون قيمة هذه النعمة، فصاروا محرومين من نعمة اغتنام الوقت واستغلال العمر؛ فما أبأس من ينفق وقته، ويهدر عمره فيما لا يعود عليه بالنفع!

ولا جرم أنَّ كلَّ مفقودٍ في الدنيا يؤمِّل الإنسان أن يسترجِعَهُ إلا الوقت، فإنه إن ضاع، فلا أمل بعودته. لذا؛ كان الوقت أنفسَ ما يملكه الإنسان؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلم – قال:

(( نِعْمَتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ ))  أخرجه البخاريُّ.

 ولله درُّ يحيى بن زهير إذ يقول:

وَالوَقْتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ = وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ

لذا؛ يُعنى المؤمن بكلِّ لحظة في حياته؛ لأنه يعلم أنه سيُحاسَب عليها؛ فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

((لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره: فيمَ أفناه ؟ وعن شبابه: فيم أبلاه ؟ وعن مالِه: من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه ؟ وعَنْ عِلْمِه: ماذا عمل فيه ؟ ))؛أخرجه التِّرمذيُّ، وقال: حديث حسن صحيح.

يقول الحسن البصريُّ - رحمه الله -: "يا بن آدم، إنَّما أنت أيَّام، كلَّما ذهب يومٌ، ذهب بعضُك".

لذا؛ فالمسلم أشدُّ حرصًا على أن يستفيد من كلِّ لحظةٍ تمرُّ في حياته، من حرصه على أن يستفيد من ثروته وممتلكاته.

قال يحيى بن معاذ: "إضاعةُ الوقت أشدُّ منَ الموت؛ لأنَّ إضاعةَ الوقت انقطاعٌ عن الحقِّ، والموتُ انقطاعٌ عن الخلق ".

وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " ما ندمتُ على شيءٍ ندمي على يومٍ غرَبَت فيه شمسُهُ، نقص فيه أجلي، ولم يزدَدْ فيه عملي ".

فكان حريًّا بالعاقل أن يستغلَّ ما وهبه الله تعالى من نعمة الوقت فيما يُرضي ربه، حتى يحقِّق لنفسِه السعادة في الدُّنيا والآخرة.

وقد سَأل الفُضيلُ بنُ عِياض - رحمه الله – رجلاً، فقال له: كم عمرك ؟ فقال الرجل: ستُّون سنة، فقال الفضيل: فأنت منذُ ستين سنةً تسير إلى ربكَ، تُوشك أن تصل، فقال الرجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، فقال الفضيل: مَن عرف أنَّهُ عبد لله، وأنَّه راجعٌ إليه، فليعلم أنهُ موقوفٌ ومسؤولٌ، فليُعِدَّ للسؤالِ جوابًا، فقال الرجلُ: ما الحيلةُ ؟ فقال الفضيل: يسيرة، تُحسنُ في ما بقيَ، يُغفر لك ما مضى؛ فإنَّكَ إن أسأتَ فيما بقيَ، أُخذتَ بما مضى وما بقي.

بركة العمر:

إن الناس يحسبون أعمارهم بالأيام والسنين، فهي مقياسهم الذي يصلون به لمعرفة أعمارهم، وإن كانت مقياسًا يدلُّ على الحقيقة الظاهرة، فإنها ليست الحقيقة؛ بل غالبًا ما تكون خاطئة.

إن للعمر مقياسًا آخر غير التقويم الهجريِّ والتقويم الميلاديِّ وغيرهما من التقويمات،مقياسًا لما أنجزه الإنسان في حياته؛ فشتَّانَ بين أعمار وأعمار! شتان بين أعمار في طاعة الله وأعمار في معصيته، أعمار في طريق الحق والعدل، وأعمار في طريق الباطل والظلم؛ يقول الشاعر:

كَمْ مِنْ فَتًى عَاشَ الْحَيَاةَ كَأَنَّهُ = لَمْ يَأْتِ لِلدُّنْيَا كَمَا الأَنْعَامِ

وَفَتًى مُنَى الدُّنْيَا تَطُولُ حَيَاتُهُ = كَالشَّمْسِ كَالأَنْهَارِ كَالأَعْلامِ

تَبْكِيهِ حِينَ وَفَاتِهِ سَمَوَاتُهَا = وَالأَرْضُ حَتَّى الأُسْدُ فِي الآجَامِ

يَحْيَا بِذِكْرٍ يَبْعَثُ الأَحْرَارَ قَدْ = صَارَتْ كَبَدْرٍ رُوحُهُ بِظَلامِ

 

ولو تأمَّل الإنسان فيمن حوله، فسيرى إنسانًا يفعل في يوم ما يفعله غيره في شهر؛ فهل مقياس العمر بينهما واحد؟! لا شكَّ أن هناك مقياسًا آخر غير ظاهر؛ إنه بركة العمر.

قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (( من أحبَّ أن يُبْسط له في رزقه، ويُنْسأ له في أثره، فليصل رحمه )) رواه البخاريُّ ومسلم.

قال النوويُّ في " شرح مسلم ": " يُنْسأ: مهموز؛ أي: يؤخَّر، والأثر: الأجل؛ لأنه تابع للحياة في أثرها، وبسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه، وأما التأخير في الأجل، ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدَّرة، لا تزيد ولا تنقص، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأجاب العلماء بأجوبة، الصحيح منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك ".

إنها بركة العمر؛ وإلا فكيف نعي ما كان يحدث مع الإمام ابن تيمية – رحمه الله – مثلاً، الذي كان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة وأكثر؛ كما قال تلميذه ابن القيم في "الوابل الصيب".

وكم من العلماء من صنَّف في حياته ما يصعب علينا عدُّه من المصنَّفات، فضلاً عن قراءته! والأمثلة أكثر من أن تحصى.

قال الشيخ العثيمين في " شرح رياض الصالحين ": "فإذا كان خير الناس من طال عمره وحسن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يسأل الله دائمًا: أن يجعله ممن طال عمره، وحسُن عمله؛ من أجل أن يكون من خير الناس، وفي هذا دليل على أن مجرد طول العمر ليس خيرًا للإنسان؛ إلا إذا حسُن عمله؛ لأنه أحيانًا يكون طول العمر شرًّا للإنسان، وضررًا عليه؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [ آل عمران: 178 ]، فهؤلاء الكفار يُملي الله لهم – أي: يمدُّهم بالرزق، والعافية، وطول العمر، والبنين، والزوجات - لا لخير لهم؛ ولكنه شرٌّ لهم - والعياذ بالله - لأنهم سوف يزدادون بذلك إثماً ".

نسأل الله أن يجعلنا ممن طال عمره، وحسُن عملُه، وحسنت خاتمته وعاقبته، إنه جواد كريم.