"ثَمّ شيء أكثر فظاعة من جحيم المعاناة، وهو جحيم الملل"
فيكتور هوغو – البؤساء
أتى وباء كورونا ليجتاح هذا الكوكب من طرفه إلى طرفه، وفرض علينا قيودًا في الحركة، فمنع أكثر البشر من الخروج من منازلهم على النمط المعتاد سابقًا .
هنا ظهر إشكال التعايش مع النمط الجديد للحياة، وسمعنا أحاديث تشي بانهيارات نفسية؛ أنا لا أتحدث عن السأم العابر فهذا طبيعي، الحديث هنا عن القدر الزائد من التأثر والتألم .
لم يكن الملل حالة مصنوعة كما هو الحال الآن؛ حتى أن بعض اللسانيين يصرحون أن أول دخول للفظ "ملل" للمعاجم الإنجليزية كان في رواية "bleak house" لتشارلز ديكنز عام 1852 .
سأتحدث عن أفكار تدور حول الملل وانزعاجنا المتضخم من مسألة الحجر المنزلي؛ الملل أكثر تركيبًا من النظر له أنه فائض من الاعتياد، إنه " مشكلة حيوية للأخلاقيين؛ حيث أن نصف ذنوب البشر على الأقل ترجع إلى الخوف من الملل" [1]
هذه محاولة فهم أولًا، وثانيًا هي محاولة إيجاد بدائل تخفف وطأة الشعور بالانهيار، أما زوال الإحساس بالملل تمامًا فليس مقصودًا ولا مرادًا في ذاته .
الفكرة الأولى : الحجر المنزلي وفقدان الاعتراف:
تحدثت في مقالة سابقة عن فكرة "الاعتراف"[2]، وكيف أن العمل الوظيفي والدراسة وسائر الأنشطة اليومية المعتادة تمنح الإنسان إحساسًا بأنه فاعلٌ، وأن بعض تصرفاتنا دافعها الفرار من غرق التهميش لنقول لمن حولنا "أنا هنا"، المعنى الإضافي أن شعورنا بفاعليتنا وأننا نقدم شيئًا يقينا من شعور الملل؛ وهو ما منعنا منه بفرض الحجر المنزلي .
قام البروفيسور إلتون مايو بتجربة مفيدة؛ كلفته شركة ويستيرن إليكتريك بدراسة ليعرف كيف يمكن الرفع من إنتاج العمال والعاملات في معامل هاوتورن بشيكاغو، منحهم عشر دقائق أخرى بعد الظهيرة بالإضافة إلى التي كانت مخصصة للفطور صباحًا . اختار نوعًا من العمال الذين يقومون بعمل ممل ليس به تحريك عقل ويكادون يكونوا كالآلات (أتخيلهم مسؤولي تغليف)، وبسرعة لاحظ أن الإنتاج قد ارتفع، زاد عشر دقائق ثالثة وجعلها في الفترة الصباحية؛ زاد الإنتاج أكثر .
كان بإمكان مايو إخبار إيقاف التجربة والخروج بنتيجة أن الراحة تزيد في الإنتاج؛ لكن ذلك لم يحدث، استمر في تجربته، أزال العشر دقائق الثالثة التي أضافها مؤخرًا وراقب الإنتاج؛ إنه يزداد أيضًا !
السر ليس في علاقة الراحة بالإنتاج، استطاع الباحث البرهنة على أن دافع زيادة الإنتاج عند العمال كان شعورهم بالاعتراف والاهتمام، وأن حذف الدقائق في المرة الأخيرة لم ينقص من معنى أنهم محط نظر بعد مدة من التهميش . [3]
نحن نشعر بذات الشعور في العزل المنزلي؛ فقدنا امتيازات التقدير خارج أسوار البيت، وشعور الإنتاج وعرق الجبين، وعدنا إلى أنانا الحقيقية؛ دون إضافات .
الفكرة الثانية: ارتباك النمط اليومي:
يمكنني القول أنه تمت هندسة يومنا بطريقة متراكمة، فتاريخ الإنسان مع فكرة "وقت العمل" حافل بالتدخلات الصناعية، لقد صاغت الوظائف المعاصرة أوقات عملنا، وصاغت أوقات فراغنا وطريقة قضائها؛ حتى إذا ارتبك أحدهما سقط الآخر .
تنقل سينثيا ل. نيغري تجربة مهمة عن كيفية صناعة النمط اليومي ومانسميه وقت الفراغ والترفيه بصورته الحالية؛ التجربة لعمال الصناعة في ورشستر، ماساتشوسيتس، دعت جموع العمال إلى شعار "الحق في وقت الفراغ"، وكانت أنشودتهم تقول :
نريد أن نشعر بأشعة الشمس؛
نريد أن نستنشق عبير الزهور؛
ونحن على ثقة بأن هذا ما يريده الرب أيضًا .
نبتغي العمل ثماني ساعات؛
ونستجمع قوانا من أحواض السفن، والمتاجر، والمعامل؛
ثمان ساعات عمل، ثمان ساعات راحة، وثمان ساعات كما يحلو لنا [4]
طالب عمال ورشستر بمواقع عامة للألعاب، وحدائق عامة، وملاعب، ليتم قضاء وقت الفراغ "الثمان ساعات" فيها، لم يكن مفهوم الإجازات حاضرًا عندهم قبل الأربعينيات من القرن العشرين، لذا كانت معضلة قضاء وقت الفراغ خارج المنزل وبصورة محددة جزءًا من نمط العمل اليومي؛ بسقوط الثمان ساعات عمل ارتبك النمط في ثلثه الأول، وبإقفال محلات التنزه العام والأسواق ذهبت الثمان ساعات الثانية، وصار على الإنسان الاعتياد على ترتيب اليوم بطريقة مختلفة؛ وهنا يأتي الشعور بالأزمة .
بالإضافة إلى أننا نعيش أعراضًا انسحابية لنمط استهلاكي إدماني فرضته علينا الرأسمالية الحديثة وإفرازاتها .
الفكرة الثالثة :1،2،3 صراخ :
يحدث لأحدنا من آلام الدنيا الكبرى ومع ذا يستطيع كتمها، حتى إذا رأى كثرة الشاكين تجرأ على بث ما به، بل قد يتكلف بث ما ليس به مجاراة لمن حوله .
فكرة أن الجميع في ملل ليست دقيقة تمامًا؛ لكن وجود وسائل التواصل جعلتنا في تظاهرة افتراضية، يصرخ أولنا فننساق له بحكم التشاكل اللاواعي والعدوى الجمعية فـ"الأفكار والانفعالات والعواطف والعقائد الإيمانية تمتلك سلطة عدوى بنفس كثافة الجراثيم، ويمكن أن نلاحظ هذه الظاهرة ببساطة لدى الحيوانات : فصهال حصان في اسطبل سرعان ما يعقبه صهال الأحصنة كلها، وبالمثل أي خوف أو حركة مضطربة أمام خروف قد يؤدي إلى ذعر وهلع بقية الخراف، وبالمثل يحدث في العالم الإنساني حيث عدوى الانفعالات والاضطرابات العصبية وظاهرات الهلع والخوف (ولو على سبيل المزاح) تنتشر بين الناس بشكل تلقائي .[5]
إننا نقرأ تغريدة/منشورًا عن الشعور الجمعي بالملل (ولو بالمزاح) فننساق بحكم العدوى ونتلبس ذات الأحاسيس .
الفكرة الرابعة: الزمن المجهول :
القارئ لأدب السجون يلحظ أن تأخير إعلان المحكومية يلقي بظلاله على الحالة النفسية للسجين، فيتمنى أحيانًا أن تطول مدته وتكون معلومة، على أن تقصر وهو يمنّي النفس بالخروج اليوم أو الأسبوع المقبل .
جزء من سبب تدهورنا النفسي أثناء كورونا مردّه إلى الزمن المجهول، فنحن لا نعلم كم تطول هذه الأزمة، ولو حُددت لنا -بنفس المدة الحقيقية- وعلمنا ذلك لكنا أهدأ وأرحب نفسًا، ولعل المتبصر في هذا الملمح يدرك سر تعلق الإنسان بفكرة الفرار عند اشتداد الأزمة؛ سترى بعض المسلمين -مثلًا- مولعين بتنزيل أحاديث الملاحم على أي حدث جلل، حتى ولو لم تنطبق عليه المناطات المناسبة؛ ليفروا ولو جزئيًا من وطأة الزمن/السردية المجهولة .
الفكرة الخامسة: فقدان الخيار:
لو أن إنسانًا اعتاد المكوث في منزله بعد صلاة العشاء كل يوم وحتى الفجراختيارًا منه، ثم أتى أمرٌ قضائي قسري بأنه تحت الإقامة الجبرية نفس المدة لشقت عليه الاستجابة، فالمكوث في المنزل ليس مشكلتنا الوحيدة، المشكلة في شعورنا بفقدان الخيار، فالإلزام يشكل تحديًا للذات الإنسانية، فليس الشأن بسهولة أو صعوبة الأمر بل الشأن في شعور الإلزام؛ ولذا كانت العبودية لله أرفع مقامات الإنسان .
الفكرة السادسة: تعري الروح:
وهذه الفكرة مؤثرة في هذا الحجر، فقد كنا نتذرع بضيق الوقت عن كثير من الإنجازات؛ فلما أتى هذا الفائض اكتشفنا أن أعذارنا لم تكن حقيقية، فالكتب التي كنا نتقطع حسرات على تركها لا زالت على الرفوف، والأصدقاء الذين كنا نتعذر بعجلة الحياة عن الاتصال بهم لا زالوا على قائمة المهشمين، نحن نواجه حقيقة أننا غير خارقين، وأننا نضعف، ونمل، ونقصر؛ وهذا ما جعلنا نضجر وننفعل، ولقد تأملت في سبب استثقال بعض الناس لشهر رمضان، فوجدت أنهم يعلقون آمالهم بخطط مثالية، فإذا بدؤوا التطبيق اكتشفوا القصور، فيأتي رمضان المقبل محملًا بشعور مواجهة الروح المتعرية عن الكمال المدعى .
الفكرة السابعة : جدلية الإنجاز:
جرى نقاش حول جدوى البرامج التي تهتم باستثمار وقت العزل المنزلي؛ فأتت اعتراضات من بعض الكرام بأن ذلك نوع من المثالية وجلد الذات، وأن مهمة الإنسان في هذه الأوقات التماسك من الانهيار؛ فإن فعل فقد أحسن .
والذي أراه في هذه المسألة أن نستحضر نقاطًا متلازمات :
أولًا : الوقت نعمة لا نقمة، فكل فكرة تجعل الوقت نقمة يجب التخلص منها فهي منكوسة " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " [6]
ثانيًا: أن عادة البشر في النعم ازدراء ما فاض، والوقت منها.
ثالثًا: إذا علمنا أن الوقت نعمة، وأن استثماره من مراعاة النعم؛ وجب أن ننبه أن هذه الكمالات لا تجب على كل أحد، فلا يكون خطاب الإلزام بالقراءة والمدارسة والالتحاق بالبرامج يحمل صيغة الوجوب الشرعي، وتعجبني في هذا المقام لفتة للشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله حين تحدث عن بعض مسائل اللهو :
"ومحبة النفوس للباطل (بمعنى اللهو الذي لا فائدة منه) نقص، لكن ليس كل الخلق مأمورين بالكمال، ولا يمكن فيهم، فإذا فعلوا ما به يدخلون الجنة، لم يحرم عليهم ما لا يمنعهم دخولها" [7]
فهذه مقاربة نفسية واقعية، تمايز بين مستوى الأمر الشرعي، وبين مستوى الكمالات الإيمانية، ومقامات السمو التربوي .
فليس استثمار الوقت منقصة، هي من الكمالات، والكمالات لها أصحابها .
الفكرة الثامنة : مضادات اليأس:
لا مناص من الشعور البشري بنوع من التغير، وأن الأمر فيه ألم بحجمه الطبيعي، والحل أن نسعى لإيجاد المعنى المفقود في حياتنا؛ ففي دراسة أنجزها الباحث جون ايستوود قال أن من مضادات الشعور بالملل :
- تهيئة الناس بأن لحياتهم غاية .
- أن تشعر بأن لك تأثيرًا على العالم، وأن الأشياء الموجودة في الحياة ذات مغزى [ 8 ]
وهذا أمر متحقق في التصور التوحيدي للبلاء، فاحتساب الأجر، والإيمان باليوم الآخر الذي فيه الجزاء، واستشعار أن المسلم فاعل مأمور بالقيام بدور الشاهدية على الناس؛ كل ذلك من بواعث السلام النفسي في زمن كورونا .
———————————————————
[1] انتصار السعادة لبرتراند راسل ص 64 بترجمة : محمد قدري عمارة، كتب فيه فصلًا عن الملل والإثارة .
[2] المقالة في المدونة بعنوان : مشاهدات في معركة الاعتراف
[3] انظر: حب الحياة، إيريك فروم، ص94 ترجمة: حميد لشهب
[4]انظر: وقت العمل ؛ الصراع والضبط والتغيير، سينثيا ل.نيغري، ص69-70 ترجمة: ابتسام خضرا
[5]السلوك الاجتماعي في الجماعات غير المنظمة، مأمون طربيه، ص78
[6]رواه البخاري 6412
[7] الاستقامة ص421
[8] من مقالة بعنوان "هل يمكنك أن تستفيد من الشعور بالملل" نشر على BBC news Arabic بتاريخ 26 أكتوبر 2016
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.