قيام رمضان في زمن كورونا.. بين الإيمان والاحتسابمقالات

حاتم غالب

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بعد ابتلاء المسلمين بإيقاف العبادات الجماعية كصلاة الجمعة والجماعات بسبب انتشار مرض كرونا المعدي، عَظم الابتلاء باستمرار تعطيل هذه العبادات ودخول رمضان ، والجميع في الحجر الصحي ملازم للبيوت.

ورمضان شهر العبادات الجماعية بامتياز ظاهر، وهو من أعظم الشهور التي تُعظّم فيها شعائر الله، وسبب ظهور هذه الشعائر ما قدره الله تعالى فيه من التغيير الكوني؛ بفتح أبواب الجنان وإغلاق أبواب النيران وتصفيد الشياطين؛ لتسهيل عمل الخير والتشجيع على أداء العبادات وتيسير ذكره تعالى وإعلاء معالم دينه.

ومما ساعد كذلك على إظهار شعائر العبادات بأنواعها؛ الأحكام الشرعية التي سنها الله ورسوله، كالاشتراك في العبادات الجماعية، وهي حكمة ربانية تيسر على المسلمين سلوك مسالك التوبة وولوج طرقها. ﴿والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيما﴾ [النساء:27]

ومن العبادات الجماعية التي شرعها الله وحث عليها: الاشتراك في أداء الصلوات في المساجد كالجمعة والجماعات، وكذا الصيام  إذ فرضه الله على الجميع في زمن واحد، مما يسهل أداءه، فتجد الصغير يحاول مشاركة الكبير وهو عليه شاق. ﴿أياماً معدودات﴾ [البقرة: 184]

ومن العبادات التي يسرها الله تعالى باجتماع الناس على تأديتها وفرضها عليهم جميعاً صغاراً  وكباراً أحراراً وعبيداً رجالاً ونساءً: زكاة الفطر.

بل وحتى بعض السنن والمستحبات جعلها الله جماعية لتسهيل أدائها والتنافس في إكمالها على أحسن وجه وأتمه والتي منها صلاة القيام ، وهي صلاة مستحبة صلاها رسول الله صلى الله عليه و سلم بأصحابه أياماً ولم يستمر اجتماعهم عليها خشية أن تفرض، وبقي الحال على ذلك حتى جاءت خلافة عمر ابن الخطاب فجمع الناس عليها؛ وبقيت ولله الحمد والمنة إلى زماننا هذا.

إلى أن حدث في هذا الزمان ما لم يكن بالحسبان، بتعطيل صلاة القيام لمكوث الناس في بيوتهم، والتزامهم بالحجر الصحي خوفاً من انتقال العدوى، فزاد البلاء وعظم الداء ، إذ إن أعظم ما يفتقده المسلمون في هذا الشهر هو صلاة القيام جماعة؛ لكونها من أجلّ العبادات التي يتقرب بها العبد إلى ربه في رمضان، وهي من الجهاد والرباط التي بها يزداد الإيمان ويُتَدبر القرآن ويُنال الأجر والغفران ، قال الحافظ ابن رجب: “واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنّهار على الصّيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادين وُفِّي أجره بغير حساب.[1]

فالجهاد الأول سهل ميسور، أما الثاني فصعب معسور على كثير من الناس، لقلة الحفاظ لكتاب الله تعالى وكثرة الصوارف عن الطاعات كالأهواء والفتن والمغريات الإلكترونية و غيرها، فضلاً عن قلة تجربة الناس وضعف اعتيادهم لهذه العبادة في البيوت، فهي نازلة بمعناها اللغوي والاصطلاحي ، وهي بحق مصيبة ابتيلت بها الأمة في هذا العصر، وواقعة جديدة مستحدثة تحتم على العلماء والمجتهدين إيجاد فقه لها ومخرج لعل الناس يهتدون فيها للحق و الصواب والخير والرشاد، فيكون لهم أُنساً وتثبيتاً على العبادة والقيام.

والحق أن المتأمل لهذا الواقع يلمح في طيات المحن منحاً تخفف مصابه وتسلو بها نفسه، وإن مما يتذكره المرء ويستحضره في هذا المقام:

– أن هذا امتحان من الله وابتلاء لمعرفة أهل الصدق والإخلاص، ومن كان يجتهد في رمضان طاعة وعبادة لله وابتغاء مرضاته، وبين من كان يجتهد عادة ومراءاة للناس. ﴿أحسبَ الناسُ أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايُفتنون * ولقد فتنَّا الذينَ من قبلهم فليعلمنَّ اللهُ الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين﴾ [العنكبوت: 2 – 3]، والمؤمن يجب أن يُري الله منه خيراً وأن يصدق الله في أقواله وأفعاله.

– أن الكتاب و السنة فيهما النجاة من الفتن والمخرج من الأزمات، والمسلم يستأنس بهما ويستحضر نصوص التيسير وفضائل الأعمال. ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185] ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]

ومهما كان أداء المسلم للعبادة؛ ومهما حصل له فيها من تقصير غير متعمد لظرف طارئ، فإن أجرها ثابت بإذن الله تعالى وكامل لا نقص فيه،  قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا[2].

– إن استحضار الاحتساب في العبادات والأجور المترتبة عليها يزيد المؤمن طمأنينة وسكينة بل ويحفزه للمسارعة إليها، فكيف ورمضان شهر الاحتساب؛ والنصوص قد تظافرت لتأكد على معناه.

وها نحن دائما نسمع أحاديث ونحفظها منذ نعومة أظفارنا حتى أتى الوقت الذي نفهمها حق الفهم بكل تدبر وخشوع، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في فضل القيام: “من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه إيمانا: مصدقا بوعد الله بثوابه وجزائه ، و(احتسابا ) أي طلبا للأجر لا لشيء آخر.

قال ابن الأثير: “الاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو منها”.[3]

والاحتساب لا يكون وارداً إلا فيما فيه جهد ومشقة، وهو قرين الصبر لا ينفكان، وفي الحديث: “فلتصبر ولتحتسب[4].

وفي قصة أم حارثة – رضي الله عنها – لما استُشهِد ابنها حارثة، قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: “فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب[5].

وكان عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يوصي الناس ويذكرهم بالاحتساب فيقول: “أيها الناس، احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عمله، كتب له أجر عمله وأجر حسبته.

فالاحتساب عمل قلبي جليل ويُعد أحد منابع الأجور العظيمة، والغفلة عنه تفوّت على المسلم كثيرا من الحسنات.

– أن سعادة المسلم في الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتذكر حاله عليه الصلاة والسلام حين كان يقوم وحيداً يناجي ربه منذ البعثة. ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾. [المزمل: 1–4]، ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الإسراء: 79]، وإن كانت هذه الآيات في جميع الليالي إلا أنه ينبغي علينا استحضارها في هذا الشهر أكثر من غيره، وأما ما يخص رمضان فعن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم صلى قيام رمضان في بيته منفردا[6].

– الاقتداء بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، واستحضار عبادتهم في بيوتهم حتى اتخذوا فيها مساجد، فقد كان قيامهم لرمضان في البيوت، ولم يصلوها جماعة إلا المرات الثلاث التي أمّهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تركها خشية أن تفرض، ليعود الصحابة إلى أدائها في البيوت فرادى. أفلا نتذوق هذا الإحساس ولو مرة في حياتنا؟

– مما يستعين به المسلم على صلاة القيام الالتجاء إلى الله بالدعاء ، فهو أساس كل خير؛ إذ به تنال الفضائل والمكرمات، ودعاء السلف بقولهم “اللهم بلغنا رمضان” ليس من أجل إدراكه فقط ، إذ لا مزية في مجرد الزمان كما لا مزية في المكان دون عمل صالح، وإنما كان دعاؤهم من أجل العون في الإكثار من العبادة فيه، مما يجعلنا ندعو بإلحاح أن يوفقنا الله للعبادة وتمام الصيام والقيام، ونستحضر وصيته عليه الصلاة والسلام لمعاذ: “يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك، فقال: “أُوصيك يا معاذ، لا تَدَعنَّ في دُبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك [7]

– من لذة القلوب والأرواح الخلوة مع الله إذ بها يتحقق الأنس بالله وتنال محبته، فصلاة الليل أفضل زمان للقاء المحبوب؛ والمحبون يختارون سكون الليل للاستمتاع بهذه الخلوات. قال رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التقي الغني الْخَفِيَّ[8]، أي الذي يكثر من عبادة الله في خلوته بربه.

وبالخلوة ينال العبد المغفرة وعظيم الثواب. ﴿إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير﴾ [الملك: 12]

ومن فضائلها وثمارها كذلك أن الله يظل صاحبها تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ خاصة إذا صاحبها بكاء من خشية الله تعالى ؛ كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله”، ومنهم: “رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه[9]

– الحرص على الترقي لنيل منزلة الشاكرين، وهي من أعلى منازل السائرين إلى الله تعالى، فعن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقومُ من اللَّيل حتى تَتفطَّر قدماه ، فقالت عائشةُ: لِمَ تَصنعُ هذا يا رسولَ اللهِ، وقد غفر اللهُ لك ما تقدَّمَ مِن ذنبِك وما تأخَّر؟! قال:”أفلا أحبُّ أن أكونَ عبدًا شكُورًا ؟[10]

قال القرطبي‏:‏” ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنوب وطلبا للمغفرة والرحمة فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك، فأفادهم أن هناك طريقا آخر للعبادة وهو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه فيها شيئا فيتعين كثرة الشكر على ذلك، والشكر الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة، فمن كثر ذلك منه سمي شكوراً، ومن ثم قال سبحانه وتعالى‏: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13]

– من اللطائف الخفية استغلال هذه الظروف في إطالة الوقوف بين يدي الله تعالى ومناجاته، فإن كثيراً من الفضلاء وأهل العلم والصلاح كانوا يحرصون على أداء صلاة القيام في جماعة بالمسجد لأنها سنة وشعار لأهل الاتباع -خلافا للروافض-، رغم أنه قد لا يرتضيها من كل وجه، فتجده كان يشتكي من تخفيف الأئمة في قراءة القرآن والقيام والركوع والسجود، ويرجو لو زاد وأطال، والإمام يأبى ذلك خشية الإثقال على الضعيف والمريض وذي الحاجة، فها هي فرصته العظيمة قد جاءت وغنيمته الباردة قد حلَّت  بلا حرج ولا ترك لسنة أو لما هو أفضل ، وها قد آن أوان أن يري الله من نفسه ما يتمنى ويرغب من طول القيام والسجود، في الحديث: “وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء[11]

– نيل الفضل الكبير وتحقيق أمنية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ إذ لما جمع الناس لصلاة القيام بعد العشاء بيّن رضي الله عنه أن أحسن أوقاتها الليلُ الآخر فقال: “والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون”. يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله[12] ومعلوم فضل الثلث الأخير إذ ‏”‏ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول‏:‏ هل من سائل فأعطيه هل من داعٍ فأستجيب له هل من مستغفر فأغفر له إلى أن يطلع الفجر‏[13]، وإذا كان أداؤها في هذا الوقت متعذراً في الجماعة بالمسجد؛ فهي فرصة لنا كذلك لأدائها في أحسن أوقاتها في البيوت.

– فرصة لحملة كتاب الله تعالى الذين لا يؤُمُّون الناس عادة بالمساجد بمراجعة القرآن ومذاكرته للصلاة بمحفوظه بأهل بيته.

– موافقة ما استحبه بعض العلماء من أفضلية صلاتها في البيت ، قال صاحب المدونة: “وسألت مالِكاً عن قيام الرجل في رمضان أمع الناس أحب إليك أم في بيته ؟ فقال: إن كان يقوى في بيته فهو أحب إلي، وليس كل الناس يقوى على ذلك، وقد كان ابن هرمز ينصرف فيقوم بأهله، وكان ربيعة وعدد غير واحد من علمائهم ينصرف ولا يقوم مع الناس، قال مالك: وأنا أفعل مثل ذلك.”[14]، وقال الشافعي رحمه الله: “فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إليّ منه[15]، وقال أبو يوسف: “من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في رمضان فأحب إليّ أن يصلي في بيته[16]، وقال الخرشي في شرحه على مختصر خليل “والانفراد فيها طلبا للسلامة من الرياء أفضل، والمراد بالانفراد فيها فعلها في البيوت ولو جماعة”[17]

فإذا كان بعض العلماء استحبوا صلاة القيام في البيوت والمساجد مشرعة فكيف والحال أنها مغلقة، والصلاة فيها متعذرة.

ولعل في هذا القدر كفاية للمتعبد وتبصرة للمتزهد وتسلية للمتزود، وقد يتضمن رداً على من يضرب بعماية ويفتي بجواز الصلاة عبر القنوات ووسائل التواصل الحديثة.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


[1] “لطائف المعارف” لابن رجب ، ص183.

[2] رواه البخاري (2996)

[3] النهاية ” لابن الأثير (1/382)

[4] أخرجه البخاري (7377)، ومسلم (923)

[5] رواه البخاري  (3761)

[6] رواه البخاري ومسلم

[7] رواه أبو داود(1522) وصححه الألباني في صحيح أبي داود(1522)

[8] رواه مسلم (2965)

[9] رواه البخاري (660) ومسلم (923)

[10] رواه البخاري (4557)

[11] رواه البخاري رقم (671)

[12] رواه البخاري رقم (2010)

[13] رواه البخاري رقم (1094)

[14] “المدونة الكبرى” (1/287)

[15] “كتاب الأم” الشافعي (1/68)

[16] “المحيط البرهاني” (2/182)

[17] حاشية الخرشي على “مختصر خليل” (2/115)

0 شخص قام بالإعجاب