في الحادي عشر من يونيو عام 1665م وفي أحد أحياء مدينة لندن رأى الكاتب الإنجليزي صمويل بيبس (ت1703م) باب الطبيب بورنت موصدًا، ولما عاد إلى بيته، كَتَب في يومياته المعروفة:
“رأيت باب الدكتور المسكين بورنت مغلقًا. لكني سمعت أنه اكتسب سمعة طيّبة بين جيرانه؛ لأنه اكتشف بنفسه أولًا أن خادمه وليام أصيب بالطاعون، فحبس نفسه بمحض إرادته، وذلك أمر جميل جدًا“.
وقعت هذه الحكاية في زمن الانتشار الكثيف للطاعون أو “الموت الأسود”، وهو سلسلة طواعين شهيرة ومريعة اجتاحت أوروبا منذ أواسط القرن الرابع عشر الميلادي، وأفنت ما يقدّر نسبته من 25% إلى 45% من مجمل السكان الذين كانوا يقدرون بـ 80 مليونًا، ولم يتراجع خطره إلا في أواخر القرن السابع عشر. وكان لهذا الوباء الجارف تأثيرات ضخمة على التاريخ الأوروبي الوسيط، بل يعتبره كثير من المؤرخين أحد الممهدات الأساسية لقدوم العصر الحديث، حيث قضت الطواعين على النظام والمجتمع القديم، وشملت تأثيراته النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، إلى جوار التأثيرات الديموغرافية. وقد حاولت بعض السلطات الأوروبية في تلك الحقب مقاومة الوباء، واتّبعت (لاسيما في إيطاليا وألمانيا) سياسات طبيّة من الحجر الوقائي والطبي وضبط التنقلات بين المدن الموبوءة وغير الموبوءة، والدفن القسري للموتى في حفر خاصة، وحرق متعلقاتهم الشخصية، وفرض ضرائب لتمويل معيشة المعزولين، ودعم من تضرّر بسبب غلق الأسواق وغير ذلك من الإجراءات الوقائية والعلاجية، والتي تتفاوت في صرامتها وتفاصيلها القانونية وآثارها السياسية.
ساهم الطاعون في ظهور الثورة الصناعية في غرب أوروبا، لأن قلة الأيدي العاملة بسبب موجات الطاعون المتلاحقة أدت إلى ارتفاع الطلب عليهم، ومن ثمّ ارتفاع تكلفة أجورهم، مما دفع التجار وغيرهم إلى البحث عن بدائل في الآلات، فاخترعت طواحين الماء والهواء وغيرها. كما أن ندرة العمالة أفضت إلى زعزعة نظام الإقطاع، وأدى انخفاض عدد السكان إلى تفاقم الصراعات الطبقية من جهة، ومن جهة أخرى كان لهذا التناقص أثر إيجابي في ارتفاع معدلات المعيشة لبقية السكان الناجين، وساهم في تراكم الثروات، التي سرّعت من تصاعد حركة النهضة. وأثّرت مواقف الكنيسة وهروب بعض قساوستها وترك أبرشياتهم وإيقاف التعليم الكنسي في مدد زمنية في اهتزاز صورتها وتراجع مكانتها. وضعفت في حقبة الطاعون الروابط والصلات الاجتماعية، وبرزت الفردانية، فلا يفكر الواحد إلا في نفسه، سجّل صمويل بيبس في يومياته لشهر سبتمبر من عام 1665م ذلك قائلًا: “إن هذا الوباء يجعلنا نقسو على بعضنا كما لو كنا كلابًا”. وحين يقدم الوباء يهرب التجار إلى الأرياف، وتترك المدن الموبوءة للفقراء، وفي وقت متأخر يعلّق سارتر على ذلك:”إن الطاعون لا يتصرف إلا بوصفه تصعيدًا هائلًا للعلاقات الطبقية، إنه يصيب الفقراء، ويترك الأغنياء”. ويفسّر ابن الخطيب الأندلسي (ت776هـ) سبب كثرة إصابة الفقراء بالطاعون بكونهم يباشرون ويلامسون مظانّ المرض “من المرضى والجنائز والإيواء والآلات، ولضيق المساكن والتراكم، وسوء التدبير، وعدم التحفظ، وقلة التيقظ لفشو الجهل”.
ولم يسلم العالم الإسلامي من هذه الموجات الوبائية التي شملت مناطق متعددة في أنحاء العالم، بيْدَ أن للطاعون تاريخًا أقدم في التاريخ الإسلامي، فقد تعرّضت كثيرٌ من البقاع المنضوية تحت حكم الدولة الأموية لسلسة طواعين تفوق العشرين طاعونًا، بمعدل وباء كل أربعة أعوام تقريبًا، وذلك طوال الفترة من عام 41هـ إلى عام 132هـ، وقدّر بعض الباحثين نسبة الناجين من هذه الأوبئة الجارفة بالنسبة لعدد الضحايا بـ 1: 14، وهي نسبة مهولة كما ترى، والتواريخ مليئة بأخبار الميتات الجماعية في هذه الحقبة، وما يتبعها من انتشار الجرائم والمجاعات، وفي هذه الظروف الصعبة ربما نتساءل كيف تلقّى من عايش تلك الأهوال هذه المصائب، ومرّ بي ملاحظة نفسية دقيقة نقلها أبو الحسن المبرد (ت286هـ) في هذا الشأن، وفيها من إشارة للطف الإلهي ما فيها، وهي تفسّر سبب قلة جزع الناس زمن الوباء، يقول أن الناس لا يجزعون في الطاعون على موتاهم كجزعهم في غير الطاعون؛ وذلك:
“لتأسّي الناس بعضهم ببعض، ولما يدخلهم من الخوف، فكل إنسان يخاف على نفسه فيسلو عن الولد والأهل والقرابة”.
وكان لهذه الأوبئة تأثيرات كبيرة على الاقتصاد والسياسة، فوقعت مجاعات مروّعة، وتزايدت معدلات التضخم ووصلت ذروتها في عهد عمر بن عبدالعزيز (ت101هـ) إلى ما يزيد عن 50%، وأربكت أعداد الوفيات التوزيع الديموغرافي، فأجبرت السلطة الأموية الزنج وقبائل الزطّ والسبابجة (وهم هنود نهر السند) على الهجرة إلى وسط العراق، لاستعادة التوازن الديموغرافي، وغير ذلك من الآثار التي أفضت في نهاية المطاف إلى سقوط الدولة الأموية، كما يرى بعض الباحثين.
ثم خفّ وقع الوباء بعد ذلك، فتبجّح بهذا بعض خلفاء بني العباس على المنبر، وقال بأن من بركة ولايته على الناس أن رفع الله الطاعون عنهم، فرد عليه أحدهم بقوله:”إن الله عز وجل أعدل من أن يجمع عليهم الطاعون وولايتك“.
وإذا انتقلنا إلى الحقبة الموازية للطاعون الأسود في أوروبا، سنرى الانتشار الواسع للطاعون منذ أواسط القرن الثامن في سنة 749هـ وما بعدها، فقد تسلل الوباء إلى الإسكندرية من المدن الإيطالية الساحلية، ومن الإسكندرية انتشر في الأراضي المصرية ثم السورية وغيرها، وقد قُدّر عدد الوفيات اليومية بحوالي عشرة آلاف إنسان، كما قدّر عدد الموتى بالطاعون في غضون عدة سنين بأكثر من 40% من مجمل السكان. وكتب الشعراء في ذلك القصائد والمقطوعات الكثيرة (وهذا موضوع بحث نقدي لطيف عن أشعار الأوبئة)، يقول صلاح الدين الصفدي (ت764هـ):
قد نغّص الطاعون عيش الورى… وأذهل الوالد والوالدة
كم منزلٍ كالشمع سكانه… أطفأهم في نفخةٍ واحدة
وأصاب الطاعون بلاد المغرب الأقصى والأندلس، وذهب لسان ابن الخطيب (ت776هـ) إلى أن الطاعون خرج أولًا في أرض الصين في حدود عام 734هـ، كما هو الحال في أيامنا هذه، ثم انتقل إلى الديار الإسلامية، لأن من خواصه “السعي والانتقال والدبيب”. وقد هال أمر هذا الوباء الناس، حتى قال المؤرخ والطبيب ابن خاتمة المرّي الأندلسي (ت770هـ): “لم نقف فيما تأدّى إلينا من تواريخ الإسلام والتاريخ المترجم قبله على تاريخ في العالم بعموم هذا الحادث، وإن كان قد وقع ما هو أعظم أمرًا منه، ولكن في موضع مخصوص، وجهة متميزة”.
ثم عاود الوباء الظهور في النصف الأول من القرن التاسع الهجري، وكان له صولة وحصد خلائق لا يحصيهم إلى الله، فكان الناس يصلون على الأربعين جنازة والخمسين دفعة واحدة، ويحكي ابن تغري بردي (ت874هـ) في ذلك حكاية محزنة، عن شخص مات له ولد صغير، فخرج ابن تغري بردي ومعه بعض الناس للصلاة عليه، قال:
“فلما وضعناه للصلاة عليه بين الأموات جيء بعدة كبيرة أخرى إلى أن تجاوز عددهم الحدّ، ثم صُلي على الجميع، وتقدمنا لأخذ الميت المذكور، فوجدنا غيرنا أخذه، وترك لنا غيره في مقدار عمره، فأخذه أهله ولم يفطنوا به، ففهمت أنا ذلك، ولم نُعلم أباه بذلك، وقلنا لعلّ الذي أخذه يواريه أحسن مواراة، وليس للكلام في ذلك فائدة غير زيادة في الحزن”.
وتزايد الأمر وتفاقم في القاهرة “حتى أيقن كل أحد أنه هالك لا محالة، واستسلم كل أحد للموت وطابت نفسه لذلك”، وتغيّر سلوك بعض الناس، فتاب خلقٌ، و”صار غالب الشباب في يد كل واحد منهم سبحة، وليس له دأب إلا التوجه للصلاة على الأموات، والبكاء والتخشّع”.
ولما فشا الأمر رأى البعض أن يخرج الناس إلى الصحراء للدعاء واللجوء إلى الله تعالى لرفع البلاء، وكان ذلك في يوم 27/ 4/ 833هـ، فأنكر ذلك جماعة، ومنهم ابن حجر رحمه الله، وقال أن هذا مما أُحدث ولم يفعله صلحاء الأمة من قبلنا، فناله من كلام الناس ما ناله، وخرجوا ودعوا، فلم يستجب لهم، وتزايد المرض جدًا فقبل ذلك كان يموت 40 إنسانًا في اليوم فتجاوزت الوفيات الألف يوميًا، ولعل سبب ذلك تناقل العدوى بسبب اجتماع الناس واختلاطهم.
ومن خلال إطلاع غير محقّق بدا أن كثيرًا مما صنّف في شأن الطاعون في التراث الإسلامي (وقد طبع منها قرابة العشر ما بين رسائل صغيرة وكتب) لا يخلو من التعرّض لثلاثة مسائل رئيسية: (منشأ الطاعون وسببه، ومشكلة العدوى، والقرار أو الفرار من الأرض الموبوءة)، وأهمها وأكثرها إثارة للخلاف “العدوى”. ومعظم تفسيرات الكتب الوسيطة ترى أن منشأ الطاعون “الهواء الفاسد”، يقول ابن خلدون في المقدمة “وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران”، وهذه هي النظرية المسيطرة على الكتب الطبيّة القديمة حتى زمن ظهور نظرية العدوى الحديثة.
وقد أنكر جماعة كالسرمري الحنبلي (ت776هـ) العدوى، وقال “زعم قوم جهال أن هذا الداء وغيره يعُدي”، وشدّد النكير على من يمتنع عن زيارة المريض خوفًا من العدوى، إلا أن آخرين أثبتوا العدوى، فقال ابن الخطيب “ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة”، ولاحظ الطبيب ابن خاتمة ذلك، وكتب: “لقد شهدت أهل سوق الخلق بالمريّة الذي كانوا يبتاعون بها ملابس الموتى وفرشهم، مات أكثرهم ولم يسلم منهم إلا الأقل… وأعجب ما جلاه في التأمل والاعتبار على طول التجربة أن الذي يلابس مريضًا ممن نزل به هذا الحادث، فإنه يتطرّق إليه مثل ذلك المرض بعينه وتظهر عليه أعراضه بعينها”. وعلّة الالتباس في مسألة العدوى ما ورد من الأحاديث والآثار ما ظاهره نفي العدوى كحديث “لا عدوى ولا طيرة”، وغيره، وما طرأ من المباحث الكلامية التي نشأت عن النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة في طبيعة العلاقة بين الأسباب والمسببات، والثابت في الشرع إثبات العدوى بأمر الله، والنفي الوارد في كلام الشارع يراد به نفي اعتقاد مشركي العرب باستقلال السبب المؤثر في نقل العدوى، والأسباب لا تستقل بالتأثير بل لا بد من وجود الشروط وانتفاء الموانع، والله تعالى هو خالق السبب والمسبّب، ويدل لهذا الوحي والعقل والتجربة الحسيّة، وإثبات تأثير السبب بأمر الله لا يعني صرف القلب إلى السبب؛ “فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكليّة قدح في الشرع” كما يقرر ابن تيمية (ت728هـ).
وتحدث بعض الأطباء المتأخرين عن ما ينبغي فعله للتحرز من الوباء، وذكروا أشياء، وتكلم ابن خاتمة رحمه الله عن الأمور النفسانية، وقال أن مما يتحرز به:
“التعرض للمسرات والأفراح وبسط النفس وانشراح الصدر وامتداد الآمال، فليستدع ذلك بما أمكن من الأمور المباحة، ومجالسة من تلهج النفس بحديثه وينصرف الفكر إليه، ولا جليس آنس من كتاب الله عز وجل، قال تعالى (وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ). ومن لم يوفق في ذلك فعليه بمطالعة كتب التاريخ، وخصوصًا أخبار الفكاهات ومناشدة الأشعار الغزلية وما في معناها، وليحذر التعرّض للغير، ولكل ما يحزن النفس ويجلب الغمّ ويلهي عن ذلك بكل وجه يمكن، فإنه من الأسباب القوية لحلول هذا العارض”.
وهذه المقويات النفسانية لا تختص بالمعافى، بل ينتفع بها المريض، ومن لطيف ما قرأته في هذا ما أخرج ابن أبي الدنيا في ” كتاب المرض والكفارات” -بسند صححه ابن حجر- عن أبي مِجْلَز أنه قال:”لا يُحدّث المريض إلا بما يُعجبه”، وكان يأتي لعمران بن جرير وقد أصيب بالطاعون، فيقول له: “عَدُّوا اليومَ في الحيِّ كذا و كذا ممن أَفْرَقَ [يعنى من تعافى من الطاعون]، وعَدُّوكَ فيهم”، قال عمران: فأفرح بذلك.
وفي هذه الضوائق الصحية يكثر المدّعون للطب والمختلقون للأدوية، لشدة حاجة الناس وتعلقهم بأدنى سبب يقال أنه نافع للمرض، لذا كتب الطبيب الشقوري الأندلسي (ت حوالي 776هـ) مهيبًا بالنخب والسلطة أن تمنع أمثال هؤلاء:
“على أهل الدين والعقل ممن أسند إليه أمر من أمور المسلمين أن يمنع أهل الجهل والإقدام من مضرة المسلمين بإعطاء الأدوية دون مشورة الأطباء، والفصد كذلك… ومالذي يضرّ الفاصد والعطّار في ألا يقدم على شيء من ذلك إلا بنظر طبيب، فيكون أخلص لدينه وأطيب لكسبه وأعز لنفسه”.
هذا، وقد وردت الأحاديث في فضل الموت بالطاعون، واعتبار المطعون شهيدًا، ففي البخاري عن عائشة رض الله عنه أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فقال: “أنَّه كانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ”، فالموت بالطاعون فضيلة بالإجماع كما نقل ابن حجر رحمه الله، ووردت آثار وأحاديث قوّاها بمجموعها بعض أهل العلم تذكر للطاعون أسبابًا وعلى رأسها فشوّ الزنا، وليس في هذا تعارض، فمن رحمة الله بأهل الإسلام أن يعجّل عقوبتهم في الدنيا. والله المسؤول أن يرفع عنا وعن المسلمين شر الأسقام، وأن يعافى المرضى، ويتغمدنا جميعًا برحمته وغفرانه.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.