من محاسنِ الإسلام في زمن الوباءمقالات

سلطان العميري

لا زالت محاسنُ الإسلام وفضائله تتجلَّي في كلِّ وقتٍ وحين، وفي هذا الوباء الكبير الذي غزى العالم بأسره تجلَّت تلك المحاسن في صورٍ متعددة، وعلت فضائله في أشكال متنوعة.

وتوجيه الأنظار إلى تلك المحاسن والفضائل في هذه الأوقات العصيبة من أوجب ما يكون؛ لأنّ فيها تثبيتًا للمسلمين على دينهم وتعزيزًا لليقين بصحته في قلوبهم، وأفراحًا لقلوبهم بتميّز أحكامه، ودفعًا للشُّبهات المعادية وإماتة لجهودهم في نقده وتشويهه.

ومن أظهر مميزات محاسن الإسلام التي انجلت مع هذا الوباء العظيم أنّها شاملة لمجالات متعددة، فهي تتعلق بالمجال المعرفي والإيماني والمجال الأخلاقي وغيرها من المجالات.

فهذا التكامل والشمول في الفضائل لا يكاد يجده الناس إلاَّ في الإسلام بتشريعه العجيب ومنظومته الفاخرة، وأمّا غيره من الأديان والتشريعات فقد يكون فيها بعض تلك المحاسن لا كلها، وما وُجد فيها لا يساوي ما في الإسلام ولا يناديه.

بظهور هذه المعاني الفاخرة يحق للمسلم أن يصدح بأعلى صوته فخرًا بدينه واعتزازًا به وفرحا بانتسابه إليه.

 فمن محاسن الإسلام في زمن الوباء: توسُّع الأفق النظري، وذلك بإشارة النصوص الشرعية إلى أنّ الأسباب الموجبة لوقوع الأوبئة والأمراض متنوعة في طبيعتها وأحكامها وإرشاداها إلى أنّ الأسباب قسمان: بعضها أسباب كونية ترجع إلى فعل الإنسان وخبرته وعلمه الدنيوي، وبعضها أسباب دينية وهي الطاعات والمعاصي التي جعلها الشارع مؤثرة في الأحداث أو حُكم عليها بأنّها مؤثرة.

فالوباء قد يكون واقعا بعدد من الأسباب وليس بسبب واحد، فهذا الوباء كما أنّ له أسبابًا مادية كونية، فقد تكون له أسباب دينية راجعة إلى ذنوب الناس وعصيانهم وبُعدهم عن الله تعالى، وقد فصلت ذلك في مقال نشر قبل أيام بعنوان (الطرق الشرعية في تفسير الأحداث).

وهذه الفضيلة تكشف أنّ عقل المسلم يختلف عن غيره في تفسير الأحداث والتعامل معها، فهو يتعامل مع الأحداث بموازين واسعة ومختلفة في طبيعتها ونوعها عن الموازين التي يتعامل بها العقل المادي الإنساني المجرد، وهذا يجعل تصوُّر المسلم للأحداث وتفسيره لها وطريقة تعامله معها مختلفة عن غيره ممن لا يؤمن بذلك التّنوع في الأسباب.

 ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: توسيع الأمل، فالمسلم بإيمانه بما جاء في النصوص الشرعية من أخبار فإنّه مع شدّة ألمه واحتياطه من الأمراض والأوبئة إلاّ أنّه يؤمن بأنّه ما من مرض أو وباء إلاّ وله دواء، وهذا الإيمان منه ليس قائمًا على خبرته أو تجربته في الحياة، فهي قد تخيب وقد تكون قاصرة لا يعرف ما يمكن أن تؤول إليه، وإنّما لأجل إيمانه بالخبر الصادق الذي جاء عن طريق الوحي، فعن أبي هريرة أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما أنزل الله داء إلاّ أنزل له شِفاء[1].

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي تعليقا على هذا الحديث: “عموم هذا الحديث يقتضي: أنّ جميع الأمراض الباطنة والظاهرة لها أدوية تقاومها، تدفع ما لم ينزل، وترفع ما نزل بالكلية، أو تخففه. وفي هذا: الترغيب في تعلم طب الأبدان، كما يتعلم طب القلوب، وأنّ ذلك من جملة الأسباب النافعة. وجميع أصول الطب وتفاصيله شرح لهذا الحديث؛ لأنّ الشارع أخبرنا أنّ جميع الأدواء لها أدوية. فينبغي لنا أن نسعى إلى تعلُّمها، وبعد ذلك إلى العمل بها وتنفيذها. وقد كان يظن كثير من الناس أنّ بعض الأمراض ليس له دواء، كالسُّل ونحوه. وعندما ارتقى علم الطب، ووصل الناس إلى ما وصلوا إليه من علمه، عرف الناس مصداق هذا الحديث، وأنّه على عمومه[2].

نعم غير المسلم قد يبحث عن الدواء ولا يكون يائسا، ولكنْ هناك فرق بين من يبحث عن الدواء ولا يدري أله وجود أم لا، وبين من يبحث عن الدواء وعنده علم بأنّه موجود ولكن عليه التنقيب عنه.

فنفسية المسلم في بحثه عن الدواء والتنقيب عنه تتصف بقوة الأمل وسعة الرَّجاء،  لإيمانه بأنّه موجود ,وإيمانه بأنّ الله كما أنزل الوباء فقد أنزل معه دواءه وعلاجه.

وفي بيان أثر هذا الإيمان على نفسية المريض والطبيب يقول ملا علي قارئ : “اعلم أنّ في هذه الأحاديث تقوية لنفس المريض والطبيب، وحثًا على طلب الدواء وتخفيفًا للمريض، فإنّ النفس إذا استوثقت أنّ لدائها دواء يزيد قوى رجائها، وانبعث حارها الغريزي، فتقوى الروح النفسانية والطبيعية والحيوانية بقوة هذه الأرواح، تقوى القوى الحاملة لها فتدفع المرض وتقهره[3].

وهذا يدل على أنّ الإيمان بوجود الدواء يقوِّي النّفس ويعزِّز من رجائها فيكون ذلك سببًا في اندفاع قوة تأثير المرض على الجسم

ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: تعزيز الأمان وتقويته، فالمسلم يصاب كغيره من الناس بالأمراض والأوبئة، لكنّه ليس كغيره في الإحساس بالأمان والطمأنينة.

فمع ما يصيبه من الخوف الطبيعي وما يلتزم به من الاحتياط، إلاّ أنّه يؤمن بأنّ الله تعالى يتولى أمره إن توكل عليه، لأنّه يؤمن بقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى الله فَهُو حَسْبُه}. فهذه الآية كفيلة بأن تبدِّد كل المخاوف التي يعيشها الإنسان المادي أو الإنسان الجاهلي، فالمسلم وإن خاف من المرض إلاّ أنّه يؤمن بأنّ الله يحفظه ويعينه ويسدِّده،  فينغرس الأمان في قلبه ويزول الخوف من روعه.

والمسلم يؤمن بأنّه مهما أصابه من بلاء إلاّ أنّه تحت تدبير ربِّه اللّطيف به، لأنّه يؤمن بقوله تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ}. ومن معاني هذا الاسم الجليل : أنّه الذي يوصل عباده – وخصوصًا المؤمنين- إلى ما فيه الخير لهم من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون[4].

 فالمسلم يؤمن في قرارة قلبه أنّ الله تعالى مهما كتب على عباده من الأوبئة العظيمة إلاّ أنّه لا يريد بعباده إلاّ الخير لهم، فتسكن نفسه وتطمئن روحه، فهو ليس كالإنسان المادي الذي لا يؤمن إلاّ بالمادة التي لا غرض لها ولا حكمة ولا إرادة ولا غاية.

والمسلم يؤمن بأنّه مهما أصابه من بلاءٍ إلاّ أنّه تحت تدبير ربِّه الرحيم به، الذي كتب على نفسه الرّحمة ورحمته سبقت غضبه، بل إنّه أرحم بنفسه من أمه بل من نفسه، فيتبدَّد الخوف من قلبه ويستقر الأمان في فؤاده، ويقبل على ربِّه بالتّوبة والطاعة والحب والدعاء.

ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: كثرة الأجور والثواب، فمع أنّ المسلم يصاب كغيره بالأمراض والأوبئة إلاّ أنّه مع إصابته يظفر بالأجور الكثيرة التي لا حدود لها مع صبره على ما أصابه، فالمسلم يؤمن بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَاب}. ومعناه أنّ الصّابر على البلاء يُعطى أجره بغير حدٍ ولا عد ولا مقدار.

تخيّل معي المفارقة بين شخصين يصابان بالمرض نفسه، أحدهما يؤمن بأنّه إن صبر على هذا المرض سيظفر بأجرِ لا عدّ له ولا حد ولا مقدار، والآخر لا يؤمن بهذا الجزاء، فكيف يكون حاله؟! وكيف تكون نفسيته؟!.سيكون في غاية التألم والحسرة وغاية التحطم والانكسار.

وأمّا المسلم فيجد السّلام في وعد ربِّه، والأنس فيما ينتظره من الخير عند خالقه، فحال المسلم مع البلاء ونفسيته تختلف كل الاختلاف عن الإنسان المادي الجاهلي الذي لم يطرق سمعه الوعد بتلك الأجور العظيمة.

ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: ظهور الاتساق بين عقيدة المسلم في ربِّه وبين ما يقع، فالمسلم يؤمن بأنّ ربّه وخالقه مدبِّر لكلِّ شيء، وأنّه لم يترك الناس ولا الكون هملاً، وأنّه لا راد لقضائه ولا معقب لأمره، وأنّه فعالٌ لما يريد، وأنّه القوي القادر الذي لا يقف أمام قدرته شيء، وأنّه الذي بيده ملكوت كلِّ شيء، وأنّ الإنسان مهما تطور وارتقى فإنّه يبقى ضعيفًا أمام قدرة الله وتدبيره، وغير ذلك من المعاني العظيمة المتعلقة بعظمة الله تعالى وجلاله وملكوته.

وظهور هذا الوباء في حياة الناس زاد من انكشاف تلك المعاني وأظهرها للغافلين والمُعرضين، ومن أجمل الآيات التي جاءت في هذا السياق في قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُنيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأكُلُ النَّاسُ وَالأَنعَامُ حَتّى إذَا أَخَذَت الأَرضُ زُخْرُفَهَا وَازَيَنَت وَظَنَ أَهْلُهَا أَنَّهُم قَادِرُونَ عَلَيهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أو نَهَارًا فَجَعَلنَاهَا حَصِيدًا كَأن لم تَغنَ بالأمْسِ كذلك نُفَصِلُ الآيَاتِ لِقومٍ يَتفكَرونَ}.

فهذه الآية تبيِّن حال كثير من المجتمعات الماديّة المعاصرة، فإنّهم قد انفتحت عليهم الدنيا، وشيَّدوا فيها ما يرونه مُسعدًا لهم، وظنوا أنّ كلّ شيء على ما يرام، وأنّه لا ضرر سيأتيهم ولا مرض سيحلُّ بهم. فبين عشية وضحاها انقلبت الأحوال،  فأضحى كثير من الناس خائفًا يترقب، وهذا يدل على ضعف الإنسان وعظمة خالقه المدبِّر لهذا الكون.

فالمسلم لا يجد في وقوع البلاء أمرًا مُناقضًا لعقيدته في ربِّه، بل يجد فيها دفعًا لقوة الإيمان بالله وسببًا لشدة التعلق به والتصديق بربوبيته وتدبيره وحكمه، فيتحوَّل الوباء في حق المسلم إلى موعظة بليغة ودعوة صادقة ومنبعًا للرّاحة واليقين بصحة اعتقاده في ربِّه.

ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: محاربة الخرافات، فإذا كان الإسلام وسَّع من أفق عقل المسلم وزرع الأمان في قلبه وقوَّى الأمل في نفسه، فهو في الوقت نفسه قطع الطريق على دخول الخرافات إلى عقله وحرَّم عليه التعلق بالأوهام والأكاذيب.

فقد حرَّم الإسلام التطيُّر، وهو التشاؤم بالمرئيات أو المسموعات أو المعلومات، وهذا التشاؤم ينتشي في النفوس أوقات الأزمات والأوبئة.

يقول النّبي صلى الله عليه وسلم: “لا عدوى ولا طيرة، وفِر من المجذوم فرارك من الأسد[5]، ويقول صلى الله عليه وسلم :”ليس منّا من تطيّر أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له[6].

فالمسلم في أوقات الأزمات والأوبئة لا يتعلق بالخرافات ولا بالأوهام ولا بالأخبار الكاذبة، ولا يذهب إلى السّحرة و الكُّهان، ولا يتوجَّه إلى القبور ولا الأولياء الأموات، وإنّما يتعلق بالله تعالى ويتوكَّل عليه  ويعمل بالأسباب الكونية المعتبرة التي يمكن التحقق منها.

ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: تعظيم العافية والحرص عليها، فالمسلم مع إيمانه بأنّ كلَّ شيء مكتوب ومقدَّر، إلاّ أنّه مع ذلك يحرص على العافية والسّلامة ويسعى إليها، فالإيمان بالقدر لا يعني أنّ المسلم لا يحتاط لصحته في أوقات الأزمات ولا يسعى للسّلامة من الإصابة بالأمراض والأوبئة.

ولأجل هذا تتالت الأوامر من الله تعالى بأن يبتعد المسلم عن المَهالك ويحرص على السّلامة. يقول تعالى: {وَلاَ تُلقُوا بِأيدِيكُم إلى التَّهلُكَة} وهذا نهيٌ عام يشمل كلَّ ما يدخِل الضرر على المسلم في دينه ودنياه.

وفي بيان عموم هذا الأمر وشموله كل مكونات الحياة يقول السعدي: “الإلقاء باليد إلى التَّهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أُمر به العبد، إذا كان تركه موجبًا أو مقاربًا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة، فمن ذلك، ترك الجهاد في سبيل الله، أو النفقة فيه، الموجب لتسلط الأعداء، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف، أو محل مَسبعَة أو حيّات، أو يصعد شجرًا أو بنيانا خطرًا، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك، فهذا ونحوه، ممن ألقى بيده إلى التهلكة[7].

ويقول صلى الله عليه وسلم: “سَلوا الله العفو والعافية؛ فإنّ أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية[8]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللّهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أحييتها فاحفظها و إن أمتها فاغفر لها اللّهم إنِّي أسألك العافية[9]

والمُراد بالعافية السلامة من الأسقام والأمراض. فليس من مقاصد الإسلام أن يقع المسلم في البلاء فقد يصبر وقد لا يصبر، وليس من مقاصد الإسلام أن يخرج الناس عن الحالة الطبيعية لهم من الصحة والعافية،  فالأصل في التشريع والعبادة لله تعالى أنّها قائمة على الحالة الطبيعية للبشر، وإن كانت الحالة الخارجة عن الأصل لها عبادات وتشريعات تخصُّها ولكنّها استثناء وليست هي الأصل.

ولأجل هذا جاء الإسلام بالعزل الصحي في زمن الأوبئة المعدية، وما ذلك إلاّ لأنّ الإسلام يُعظِّم العافية ويسعى إلى تحقيقها في واقع الناس، فكما أنّ الإسلام يهتم في تشريعاته بدين الناس فإنه يهتم أيضًا بما يتعلق بدنياهم وصحتهم وعافيتهم.

نعم، غيرُ المسلم يهتم بالعافية ويحرص على سلامة جسمه من الأمراض، ولكن هناك فرق بين من يندفع إلى هذا الأمر لمجرد أنّه أمر حياتي، ويبن من يندفع إليه على أنه أمر يحبه الله ويأمر به ويدفع إليه، ويرتِّب عليه الثواب ويعاقب المفرط فيه،  فمع كون الحرص على العافية أمرًا فطريًا إلاّ أنّ الإسلام أضاف إليه بعدًا تعبدِّيًا،  فأضحى فِعلا متعدد الجوانب والفوائد في حق المسلم.

ومن محاسن الإسلام في زمن الوباء: الدفع إلى التعاون وبذل المعروف وقت الأزمات، لا تكاد تجد دينًا يضمن الحثَّ على إعانة الناس والترغيب في خدمتهم  مثل ما تجده في الإسلام، خاصة في أوقات الكرب والمصائب.

والنصوص الشرعية التي جاءت في تعزيز الترابط الاجتماعي مستفيضة، ومن أجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: “من نفَّس عن مُؤمن كربةً من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عَون أخيه[10].

وقد تفنَّن الدارسون كثيرًا في بيان كيفية بناء الإسلام للمجتمعات الإنسانية، وأكدوا على أنّ من أخص مميزات المجتمع المسلم ظهور معالم التعاون والنفع والتّراحم فيه في كلِّ الأوقات وفي الأزماتِ خاصة.

ومن أفضل من تحدّث عن هذا الموضوع الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه “المجتمع الإنساني في ظل الإسلام“، فقد تحدّث فيه عن منهجية الإسلام في بناء المجتمع وعن أهمِّ قوانينه التي بناه عليها، وفي وصف منهج الإسلام يقول: “المجتمع في الإسلام مجتمع معنوي أي : أنّ العلاقات الاجتماعية فيه تُبنى على الروابط الأدبية من توادٍّ وتراحم، لا على أساس العلاقات المادية فقط…. ومَثَلُ المجتمع المادي الذي يُبنى على الاقتصاد أو على الاجتماع في مكان كمثل الأحجار المتراصّة التي يجاور بعضها بعضًا من غير ارتباط وثيق بين أجزائها، وإنّه مهما يكن فيه من تنسيق هندسي لا يمكن أن يكون متلاحمًا متّصلاً، وأنّه ينهار لأقل عاصفة تثور، ولا يستمر مُجتمِعا إلاّ إذا كان مهندس البناء قوَّاما عليه يتتبع ثغراته،  فيسارع بسدّ ما يظهر منها بعمل مادي أيضًا.

أمّا المجتمع المعنوي فإنّه يقوم على أساس من العلاقات الروحيّة الرابط بين أجزائه، وهو متماسك غير قابل لأن تتداعى لبناته؛ لأنّه مترابط الأجزاء بما لا يقبل الانقطاع ما دام يغذى بالروح وبالدين، قد يكون غير منسق اقتصاديا أو هندسيا ولكنّه قوي مَتين[11].

ولأجل هذه الروح ظهرت في المجتمع الإسلامي حملات التّبرع للفقراء والمساكين في زمن هذا الوباء، تابع الأخبار وانظر في مواقع التواصل الاجتماعي تجد أنباء التبرع في كل مكان في الكويت وفي الجزائر ومصر وفلسطين والسعودية وفي كلِّ مكان.

إنّ هذا التَّداعي لا يمكن أن يكون إلاّ إذا وُجد منبع واحد ينطلق منه هؤلاء الناس المتباعدين في بلدانهم، إنّه أصل الإسلام ونور الوحي الذي غرس فيهم حب الخير للناس وعزَّز في نفوسهم التّوجه إلى إعانة المحتاجين ورفع الكرب عنهم.

وفي المقابل انظر إلى المجتمعات الماديّة الجاهلية، فإنّ كثيرًا منهم ما إن حلّت الأزمة ببلادهم إلاّ وأخذوا بالانكفاء على أنفسهم، بل أخذوا يُصارعون على الاستحواذ على أكبر قدرٍ ممكن من المعيشة ليخزِّنوها في بيوتهم من غير تفكير منهم بأن يعينوا جائعًا أو يطعموا مسكينًا أو يقضوا حاجة مُحتاج.

إنّه الإسلام يا كِرام، الدين الذي صنع أعظم معجزة إصلاحية في الوجود  وأحدث أكبر تحوُّل في حياة الإنسانية، يقول أبو الحسن الندوي في وصف ما أحدثه الإسلام من إصلاحٍ في نفوس أهل الجاهلية وما صنعه فيهم من تغيير: “لقد كان هذا الانقلاب الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين وبواسطتهم في المجتمع الإنساني أغرب ما في تاريخ البشر، وقد كان هذا الانقلابُ غريبًا في كلِّ شيء: كان غريبًا في سرعته، وكان غريبًا في عُمقه، وكان غريبًا في سِعته وشموله، وكان غريبًا في وضوحه وقُربه إلى الفهم، فلم يكن غامضًا ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزًا من الألغاز“.

ثم استمر شارحًا قوة تأثير الإسلام في قلب الشعوب الجاهلية وإصلاحها: “انتقل العرب والذين أسلمُوا من هذه المعرفة العليلة الغامضة الميتة إلى معرفةٍ عميقة واضحةٍ روحيّة ذات سُلطان على الرُّوح والنفس والقلب والجوارح، ذات تأثير في الأخلاق والاجتماع، ذات سيطرة على الحياة وما يتصلُ بها.

 آمنوا بالله الذي له الأسماء الحسنى والمثلُ الأعلى، آمنوا بربِّ العالمين الرَّحمن الرَّحيم مالك يوم الدين الملك القدُّوس السّلام المؤمن المُهيمن العزيز الجبّار المتكبِّر، الخالق البارئ المصوِّر، العزيز الحكيم، الغفور الودود، الرؤوف الرَّحيم، له الخلق والأمر، بيده ملكوتُ كلِّ شيء، يُجير ولا يجَار عليه، إلى آخر ما جاء في القرآن من وصفه، يُثيب بالجنة ويعذِّب بالنّار، ويبسُط الرِّزق لمن يشاء ويقدر، يعلم الخبء في السَّماوات والأرض، ويعلم خائنة الأعيُن وما تخفي الصدور، إلى آخر ما جاء في القرآن من قدرته وتصَرفه وعلمه.

 فانقلبت نفسيتهم بهذا الإيمان الواسع العميق الواضح انقلابًا عجيبًا، فإذا آمن أحد بالله وشهد أنّ لا إله إلا الله انقلبت حياته ظهرًا لبطن، تغلغل الإيمان في أحشائه وتسرَّب إلى جميع عروقه ومَشاعره، وجرى منه مجرى الرُّوح والدم واقتلع جراثيم الجاهلية وجذورها، وغمر العقل والقلب بفيضانه وجعل منه رجلاً غير الرجل، وظهر منه روائع الإيمان واليقين والصَّبر والشجاعة ومن خوارق الأفعال والأخلاق ما حيّر العقل والفلسفة وتاريخ الأخلاق، ولا يزال موضِع حيرة ودهشة منه إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليله بشيء غير الإيمان الكامل العميق[12].

والحمد الله رب العالمين


[1] رواه البخاري (5678).

[2] بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار (147).

[3] مرقاة المفاتيح شرح المصابيح (7/2860).

[4] انظر: تيسير الكريم الرحمن، السعدي (756).

[5] رواه البخاري (5707).

[6] رواه البزار في مسند (3578)

[7] تيسير الكريم الرحمن(90)

[8] رواه الترمذي (3558)، وغيره.

[9] رواه مسلم (8) وغيره.

[10] رواه مسلم (2699).

[11] المجتمع الإنساني في ظل الإسلام (121).

[12] ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين (85).