من أخلاقيات الدعاةمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

لابد للدعوة إلى الله من داعية يحمل همَّ دعوته، ويعرف ماهيتها وغايتها، والمطلوبَ منه في طريق الدعوة، وما يجب عليه من التحلي بالأخلاق الحسنة والشيم الكريمة؛ فإنه كالسراج المنير يمحو ظلماتِ الكفر والضلال والمعاصي.

وعليه التأسِّي بإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه قائلاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].

وخاطبه ربه كذلك قائلاً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

فما الرابط بين الدعوة والأخلاق؟

الرابط بينهما أن الدعوة إلى الله تعالى هي دعوة إلى الأخلاق الحسنة والشيم الكريمة، فمن يحمل هذه الدعوة لابد أن يتحلَّى بهذه الأخلاق الحسنة والسلوك الجميل والسيرة الحسنة، وأن يحرص أن يكون قدوةً حسنة في أفعاله وأقواله وسَمْته وتصرُّفاته وسائر أحواله.

فلقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله: ((إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِم الْأَخْلَاق))[1].

وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ))[2]، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: "كَانَ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ". وغير ذلك من الأحاديث التي تتحدَّث عن حسن الخلق.

وقد أمره ربه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، فجَمَعَ اللَّهُ لَهُ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ، التي على كل داعية أن يتحلَّى بها؛ حيث إنه إن تحلَّى بها، استطاع أن يأسر القلوب بالأخلاق الحسنة، والشِّيَم الكريمة؛ مثل: الصدق والأمانة والإخلاص، والرفق والتواضع، والصبر على الناس، والكرم، والإيثار، والتسامح، وسلامة الصدر، والعفَّة، وحسن السَّمت، وسعة الأفق، وعلو الهمَّة، والثبات على المبدأ، وعدم الإصرار على الخطأ، والرجوع إلى الحق، وعدم الجرأة على القول بدون علم، ومعاملة الناس معاملة حسنة.

وقد فصَّل الإمام ابن القيِّم – رحمه الله - في كتابه "مدارج السالكين" معنى حسن الخلق تحت عنوان: (فَصْلٌ: الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ) ، قال: "الدِّينُ كُلُّهُ خُلُقٌ، فَمَنْ زَادَ عَلَيْكَ فِي الْخُلُقِ، زَادَ عَلَيْكَ فِي الدِّينِ...

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، وَقِيلَ: حُسْنُ الْخُلُقِ: بَذْلُ الْجَمِيلِ، وَكَفُّ الْقَبِيحِ، وَقِيلَ: التَّخَلِّي مِنَ الرَّذَائِلِ، وَالتَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ.

وَحُسْنُ الْخُلُقِ يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ سَاقِهِ إِلَّا عَلَيْهَا: الصَّبْرُ، وَالْعِفَّةُ، وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدْلُ.

فَالصَّبْرُ: يَحْمِلُهُ عَلَى الِاحْتِمَالِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَكَفِّ الْأَذَى، وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ وَالرِّفْقِ، وَعَدَمِ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ.

وَالْعِفَّةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى اجْتِنَابِ الرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَتَحْمِلُهُ عَلَى الْحَيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَتَمْنَعُهُ مِنَ الْفَحْشَاءِ، وَالْبُخْلِ وَالْكَذِبِ، وَالْغِيبةِ وَالنَّمِيمَةِ.

وَالشَّجَاعَةُ: تَحْمِلُهُ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ، وَإِيثَارِ مَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَالشِّيَمِ، وَعَلَى الْبَذْلِ وَالنَّدَى، الَّذِي هُوَ شَجَاعَةُ النَّفْسِ وَقُوَّتُهَا عَلَى إِخْرَاجِ الْمَحْبُوبِ وَمُفَارَقَتِهِ. وَتَحْمِلُهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَالْحِلْمِ؛ فَإِنَّهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ وَشَجَاعَتِهَا يُمْسِكُ عِنَانَهَا، وَيَكْبَحُهَا بِلِجَامِهَا عَنِ النَّزْغِ وَالْبَطْش؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَّدِيدُ: الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ))، وَهُوَ حَقِيقَةُ الشَّجَاعَةِ، وَهِيَ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا الْعَبْدُ عَلَى قَهْرِ خَصْمِهِ.

وَالْعَدْلُ: يَحْمِلُهُ عَلَى اعْتِدَالِ أَخْلَاقِهِ، وَتَوَسُّطِهِ فِيهَا بَيْنَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيط، فَيَحْمِلُهُ عَلَى خُلُقِ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الذُّلِّ وَالْقِحَةِ، وَعَلَى خُلُقِ الشَّجَاعَةِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ، وَعَلَى خُلُقِ الْحِلْمِ، الَّذِي هُوَ تَوَسُّطٌ بَيْنَ الْغَضَبِ وَالْمَهَانَةِ وَسُقُوطِ النَّفْسِ.

وَمَنْشَأُ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ"[3].

فما نقلناه من كلام ابن القيِّم – رحمه الله - جامع مانع في تفصيل الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتحلَّى بها، هذه الأخلاق الأربعة وما يندرج تحتها.

وقد أشار الله تعالى في ثنايا ذكره قصة يوسف عليه السلام سبيل أسر قلوب المدعوِّين لإرشادهم إلى طريق الله تعالى؛ حيث قال: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ... }... إلى قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36].

إنه الإحسان، هو أفضلُ طريق لأسر القلوب وتوجيهها إلى الإيمان بالله تعالى.

وقد أرشد الله تعالى الدعاة إلى الأخلاق الفاضلة والطريقة الصحيحة للدعوة من خلال الحديث عن أخلاق النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليتأسَّى الداعية بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيكون هيِّنًا ليِّنًا شَفوقًا في نُصح المدعوِّين باشًّا دائم التبسُّم، فيمتثل قول الله تعالى لنبيِّه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وليُظهر الرحمة والحرص على هداية المدعوِّين؛ قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

فلا بد أن يتحلَّى الداعية بالرفق واللطف والرحمة والشفقة بالمدعوِّين، والصبر على ما قد يصدر منهم من أذًى ومتاعبَ ومشاقَّ، والحرص على هدايتهم وإرشادهم إلى الخير.

والصدق والأمانة فقد لقِّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل بعثته من أهل مكة بالصادق الأمين؛ فالصدق والأمانة خُلقان متلازمان ومتكاملان، ويشملان حياة الإنسان وشؤونه وكل أموره، مع الله ومع الناس، في النية والقول والعمل، لا يكون إلا بالحق والخير، وفي الظاهر والباطن؛ وإلا سيظهر حتمًا ما في باطنه وما يخفيه؛ كما قال زُهَيْرُ بنُ أبي سُلْمى:

وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ = وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ

فلا يمكِن للداعية إلى الله تعالى أن ينجح في دعوته إلا بالتحلِّي بالصدق والأمانة من مجموع الأخلاق الحسنة والشيم الكريمة.

- ومن أفضل الأخلاق تأثيرًا في المدعوِّين: التواضع والتسامح؛ فإن الناس يحبُّون الإنسان المتواضع السمح، ويُبغِضون المتكبِّر المتعاليَ المغرور ذا الخُيَلاء، فإذا أحبَّه المدعوُّون، استجابوا لدعوته؛ فإن المحبَّ لمن يحب مطيع.

ومن أهم الأخلاق والصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية أن يوافق عملُه قولَه؛ فإن أشدَّ الصفات تنفيرًا للناس على الإطلاق أن لا يُصدِّق عملُ الداعية قولَه؛ فإذا دعاهم إلى خير، فلا بد أن يكون أحرصَ الناس على فعله كأفضلِ ما يكون، وإذا نهاهم عن شيء، كان أولَ المنتهين عنه.

وبعدُ؛ لقد تحدَّثنا عن أخلاق الداعية بشكل مُجمَل، وإلا فالأمر يحتاج إلى تسويد صفحات كثيرة، وحديث طويل؛ ولكن ذكرنا الأخلاق الجامعة التي لا بدَّ أن يتحلَّى بها الداعية إلى الله تعالى؛ لينجح في دعوته إلى الخير، ويكون سراجًا منيرًا متأسِّيًا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء وأئمة الهدى.

 


[1] رواه أَحْمدُ وَالْبَيْهَقِيُّ ومالكٌ، والبخاريُّ في (الأدب المفرد)، وَالْحَاكِم وقَالَ: صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم.

[2] رواه مسلم.

[3] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 294).

6 شخص قام بالإعجاب