الدعوة في آياتمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن الدعوة إلى الله تعالى هي مَهمَّة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وإن كتاب الله تعالى تناول الدعوة بكل أوجهها في آيات كثيرة من القرآن الكريم إجمالا وتفصيلاً؛ بل إن آياتِ القرآن الكريم كلَّها تُعتبر دعوةً إلى الله تعالى والإيمان به ومعرفته وتنفيذ شرائعه.

وثَمَّةَ آياتٌ من القرآن الكريم تتحدث عن الدعوة إجمالاً، وتأمر بها المؤمنين، وتحضُّ عليها، وثَمَّةَ آياتٌ أخرى تتحدث عن الدعوة بالتفصيل مثل قصص الأنبياء في دعوة أقوامهم، وكيف كانوا يدعون أقوامهم والناس؟ وهي دروس عملية توجِّه المؤمنين إلى أخلاق الداعية، ومنهج الدعوة، وكيفية التعامل مع المدعوين، وكيف يخاطب الداعية المدعوِّين ويحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن، ويردُّ عليهم.

فقد تحدَّث الله تعالى عن فضل الدعوة إلى الله تعالى؛ فقال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

وهذا استفهام تقريريٌّ؛ أي: لا أحد أحسنُ قولاً ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ.

وأمر المؤمنين أن يدعوا إلى الله تعالى ليكونوا من المفلحين في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].

قال ابن كثير: "وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ فرْقَة مِنَ الأمَّة مُتَصَدِّيَةٌ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِحَسْبِهِ"[1].

وذكر كيفية الدعوة في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "أَطْلَقَ الْحِكْمَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِوَصْفِ الْحَسَنَةِ؛ إِذْ كُلُّهَا حَسَنَةٌ، وَوَصْفُ الْحُسْنِ لَهَا ذَاتِيٌّ، وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ، فَقَيَّدَهَا بِوَصْفِ الْإِحْسَانِ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَوْعِظَةٍ حَسَنَةً، وَكَذَلِكَ الْجَدَلُ، قَدْ يَكُونُ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ ذَلِكَ"[2].

والدعوة تحتاج إلى البصيرة؛ كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

قال ابن كثير: "قول الله تعالى لعبده وَرَسُولِهِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، آمِرًا لَهُ أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ: أَنَّ هَذِهِ سَبِيلُهُ؛ أَيْ: طَرِيقُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ، وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، يَدْعُو إِلَى اللَّهِ بِهَا عَلَى بَصِيرة مِنْ ذَلِكَ، وَيَقِينٍ وَبُرْهَانٍ، هُوَ وَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ، يَدْعُو إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ وَبُرْهَانٍ شَرْعِيٍّ وَعَقْلِيٍّ"[3].

وقد فصَّل الله تعالى في خطابه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وحديثه عنه صفاتِ الداعية وأخلاقَه وطرق الدعوة... إلخ، نذكر طَرَفًا من ذلك.

فيخاطب النبيَّ صلى الله عليه وسلم محدِّدًا مَهمَّته؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]

وفي آيات كثيرة من القرآن يرشد الله تعالى الدعاة إلى الأخلاق الفاضلة والطريقة الصحيحة للدعوة من خلال الحديث عن أخلاق النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ليتأسَّى الداعية بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فيكون هيِّنًا ليِّنًا شَفوقًا في نُصح المدعوِّين باشًّا دائم التبسُّم، فيمتثل قول الله تعالى لنبيِّه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، وليُظهر الرحمة والحرص على هداية المدعوِّين؛ قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

وقد وجَّه الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم عندما اهتمَّ بدعوة كفَّار قريش من سادتها المستكبرين الْمُعرِضين وأقبل عليهم، وتلهَّى عن ابن أم مكتوم الأعمى الذي أقبل عليه؛ قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10].

وقد بشَّر الله تعالى النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بنصر الإسلام، وأن المستقبل لهذا الدين، وأن النصر قريب مهما اشتدَّت الخطوب، ومهما حاول أعداء الدين أن يُطفئوا نور الله - عز وجل - فإنهم لن يصلوا إلى تلك الغاية؛ كما أخبر الله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].

وليس معنى هذا أن يرى كل مؤمن النصر في الدنيا؛ فقد ذكر الله تعالى كثيرًا في القرآن الكريم تحديد مَهمَّة النبي صلى الله عليه وسلم (البلاغ) دون انتظار النتائج؛ قال تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].

في هذه اللَّمحة المتكرِّرة في القرآن الكريم: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}  ما يستحقُّ التوقُّف أمامها للتدبُّر والتأمُّل، حيث يُقال للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وقد لاقى الأذى والتكذيب والكبر والعناد والمحاربة والتجبُّر ما مفهومُه: عليك أداء واجبك ولا شأن لك بالنتائج؛ فالنتائج ليست من شأنك، حتى شفاء صدره بأن يشهد تحقُّق بعض وعيد الله للمتكبِّرين المكذِّبين ليس له أن يعلِّق به قلبه! ما عليه العمل وكفى، يؤدِّي واجبه ويمضي؛ فالأمر ليس أمرَه، والقضية ليست قضيتَه، إن الأمر كلَّه لله، والله يفعل به ما يريد.

وعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يرتقوا إلى هذه المعالي، ويتأدَّبوا الأدب الكامل المتمثِّل في شخص النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويلتزموا بدورهم؛ العمل لهذا الدين وكفى.

وقد ذكر القرآن دعوة الرسل لأقوامهم، وفصَّل في كثير من آياته قصص بعض الأنبياء، وأنهم كلهم دعوتهم واحدة إلى توحيد الله وعبادته؛ فقال تعالى عن نوح: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وهود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]، وعن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73].

والقرآن الكريم مُترَع بالحوارات بين رسل الله وأقوامهم ودعوتهم إياهم؛ كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهود وصالح وغيرهم، وذكر الله تعالى الغاية من إرسال الرسل؛ حتى يقيم الحُجَّة على الناس؛ مثل قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].

وتحدَّث القرآن الكريم عن شرطين لابد أن يتوفَّرا في الدعاة أئمة الهدى، وهما الصبر واليقين؛ قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].

وقد توفَّر هذان الشرطان في قصص دعوة الأنبياء لأقوامهم؛ فكلُّهم صبروا وكانوا موقنين بوعد الله يُظهرونه في كل موقف؛ مثلما حدث مع موسى عليه السلام عندما كان البحر من أمامه وفرعون وجيشه من خلفه وتراءى الجمعان؛ قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 61، 62]، وكذلك الأنبياء جميعهم.

 وقد ذكر الله تعالى كيفية الدعوة والتعامل مع أصناف البشر، ومن أحقرهم فرعون الذي فصَّل الله تعالى في مواضعَ كثيرةٍ من القرآن توجيهه لموسى وهارون عليهما السلام في دعوة فرعون وقومه، وكذلك التعامل مع سحرة فرعون حتى آمنوا بالله، وتحدَّوا فرعون الذي أتى بهم لنصرته؛ وهذه بعض الآيات تمثِّل نموذجًا للدعوة إلى الله تعالى؛ قال تعالى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى...} إلى قوله تعالى: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 43- 73].

ومن الدروس العملية للدعاة ما ذكره الله تعالى من دعوة يوسف عليه السلام في السجن وقد شهدوا له بالإحسان، وهو أفضلُ طريق لامتلاك القلوب وتوجيهها إلى الإيمان بالله؛ قال تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ... }... إلى قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 36].

وهذا نوح عليه السلام ذكر الله في القرآن صبره على دعوة قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ويقينه في نصر الله، مع دروس تعامله مع ابنه الكافر وتوجيه الله له؛ قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 46، 47]، وكذلك ذكر الله تعالى في آخر سورة التحريم كُفر امرأة نوح وامرأة لوط مثلاً للكفَّار، وامرأة فرعون مثلاً للمؤمنين؛ ليبيِّن الله تعالى أن رابطة الدين والعقيدة هي العروة الوثقى، وما سواها من زواج أو بنوَّة أو غير ذلك رابطة واهية إذا تضادت مع رابطة العقيدة، ومع ذلك يجعل الله تعالى دعوة الأقربين من أولويات الدعوة؛ فلا ينبغي أن يجتهد الداعية في دعوة الناس ويهمل أهله وأقرباءه؛ قال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].

وقد ذكر الله تعالى دعوة إبراهيم لأبيه آزر في أكثر من موضع بالقرآن، ودعوته لقومه، وحواراته معهم.

إن آياتِ القرآن كلَّها تدور حول الدعوة إلى الله تعالى عقيدة وشريعة وآدابًا وأخلاقًا، على الإجمال والتفصيل، وما ذكرناه مجرَّد لمحات عن الدعوة إلى الله في آيات القرآن الكريم.

 


[1] تفسير ابن كثير (2/ 91).

[2] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 444).

[3] تفسير ابن كثير (4/ 422).