إن من أعظم الواجبات على كل مسلم، وأفضل القُربات إلى الله: طلبَ العلم، والدعوةَ إلى الله تعالى؛ فقد رغَّب الإسلام فيهما، وحضَّ المسلم عليهما على قدر استطاعته، فليتعلَّم ولو آيةً ليبلِّغها، وله عظيم الجزاء.
ففي فضل طلب العلم وردت النصوص المتكاثرة في الكتاب والسنَّة؛ مثل قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقوله سبحانه: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، وغيرها من الآيات الكثيرة.
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الِّدين))[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا، سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنَّةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ، حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ، وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا؛ وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ))[2]، وقال صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((فضْلُ الْعالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلي عَلَى أَدْنَاكُمْ)) ثُمَّ قَالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((إنَّ اللَّه وملائِكَتَهُ وأَهْلَ السَّمواتِ والأرض،ِ حتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلى مُعلِّمِي النَّاسِ الخَيْر))[3]، وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة في فضل طلب العلم.
وورد كذلك في فضل الدعوة إلى الله تعالى الآيات والأحاديث المتكاثرة؛ مثل قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]، وقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وغير ذلك من الآيات.
وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))[4]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا))[5]، وقال: ((مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ))[6]، وقال: ((نَضَّرَ اللَّه امْرَءًا سمِع مِنا شَيْئًا، فبَلَّغَهُ كَمَا سَمعَهُ؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعى مِنْ سَامِع))[7]، وغير ذلك من الأحاديث النبوية.
وطلب العلم والدعوة إلى الله واجبانِ يُكملان بعضهما البعض، لا يوجد تعارض بينهما البتَّةَ، ومن ظن وجود تعارض بين العلم والدعوة، أو أنه لا يمكن الجمع بينهما، فقد أخطأ؛ فطالب العلم يمكنه أن يدعو أهله وأصدقاءه وجيرانه ومعارفه وهو في طلب العلم.
وإليك هذا التفصيلَ للمسألة:
- إن العلم والدعوة مرتبطان بعضهما ببعض، ولا تعارض بينهما، بل إن العلم هو المرتبة الأولى للدعوة، وحقيقة الدعوة هي تبليغ ما يَعلَمه المرء من الدين للناس. إذن؛ هما متعاضدان ومتكاملان؛ فالدعوة بدون علم ستؤدِّي إلى الضلال وعكس المقصود منها حتمًا، والعلم بدون دعوة لا فائدة له؛ فالإسلام دين العلم والعمل، يتعلَّم المسلم ليعمل بعلمه، ويبلِّغ ما تعلَّمه ولو آيةً كما في الحديث.
-الدعوة إلى الله تعالى مَهمَّة الأنبياء والرسل، وهي مرتبة عالية ومقام عظيم للدعاة إلى الله تعالى؛ قال تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]؛ أي: إن الدعوة تحتاج إلى بصيرة؛ أي: علم؛ فكيف يدعو الإنسان إلى شيء يجهله؟! ولو دعا إلى ما لا يعلمه كان من القائلين على الله بغير علم.
-قال الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]؛ فهذا رسول الله القائم بالدعوة يأمره ربُّه بطلب الزيادة في العلم؛ ومن ثم فكل أتباعه من علماء وطلبة علم – مهما بلغوا في الدعوة والعلم – سيظلُّون يطلبون العلم تأسِّيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
- كلما كان الداعية أرسخَ قدَمًا في العلم، كان أنجحَ في ميدان الدعوة إلى الله؛ فالدعوة تُبنى على قواعد العلم المتين.
- هل لا يُضيع وقت طالب العلم سوى الدعوة فقط؟! إن ثَمَّةَ أمورًا كثيرة – دينية ودنيوية -واجبة عليه، لا بد أن يفعلها مع طلبه للعلم؛ أقلُّها: التكسُّب والعبادة والقيام بشؤون الوالدين والأسرة، وهلمَّ على هذا الجَرِّ؛ فليست الواجبات دعوةً وطلب علم فقط، أم أن من يظنون التعارض بينهما يحسبون أن طالب العلم سيهجر كل شيء في الحياة وكلَّ الواجبات من أجل طلب العلم؟!
-ليس ثَمَّةَ دعوةٌ بدون علم، ولا يلزم الداعيةَ أن يكون عالِمًا؛ إنما الواجب عليه ألَّا يدعوَ إلا بما يعلم، وقد بوَّب البخاريُّ في صحيحه في كتاب العلم: "باب العلم قبل القول والعمل".
- كما أن المسلم يجب عليه طلب العلم، فإنه يجب عليه أيضًا الدعوة إليه وتبليغه؛ تنفيذًا لأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً))[8].
- طلب العلم لا ينتهي بصاحبه إلا حين يغادر الدنيا؛ فهل سيعطِّل طالب العلم واجب الدعوة إلى الله طوال حياته بحُجَّة طلب العلم؛ فمتى سينتهي من طلب العلم؟!
- ثَمَّةَ وسائلُ للدعوة يمكِن لطالب العلم أن يستخدمها دون بذل الكثير من وقته؛ بل إن منها ما لا يحتاج إلى وقت أصلاً؛ مثل الدعوة إلى الله بالأخلاق الحسنة والسلوك الجميل والسيرة الحسنة، وأن يحرص أن يكون قدوةً حسنة في أفعاله وأقواله وسَمْته وتصرُّفاته وسائر أحواله.
- لو هجر طلبة العلم الدعوة بحجة طلب العلم، سيتصدَّر للدعوة الجهلاء، وتقع الدعوة في لُجَّة الانحراف والزيغ عن الحق.
-يظلُّ طالب العلم طالبًا للعلم حتى الموت، مهما بلغ من العلم، وفي كل مرحلة من حياته يجب عليه أن يؤدِّيَ واجب الدعوة على قدر علمه، ففي البداية يدعو ولو بتبليغ آية، ولو حصَّل قَدْرًا من العلم يدعو ويبلِّغه، ولو صار عالِمًا، سيتصدَّر للدعوة مع استمرار طلبه للعلم؛ فإن الدعوة والمدعوِّين بحاجة – خاصة في هذا الزمان – إلى الدعاة الراسخين في العلم؛ ففي كل الأحوال تستمرُّ الدعوة مع طلب العلم.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.