الشباب والاحتسابمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن من آفات هذا العصر: النظرَ لفئة الشباب على أنهم أهل تهوُّر وطيش، وإن كان ذلك له وجه في المجتمعات المختلفة، فإنه لا يصحُّ البتَّةَ في المجتمعات الإسلامية؛ إذ إن الشباب المسلم الصالح كان لهم دور بارز في تاريخ الإسلام؛ في العبادة والجهاد والدعوة والعلم ورفع راية الإسلام، ولم يكن ثمَّةَ مشكلاتٌ خاصة منهم؛ بل بزُّوا في كل ميدان، ونصروا الدين والعقيدة؛ كمصعب بن عمير، أول سفير في الاسلام، والمجاهدين الذين قادوا الجيوش وخاضوا المعارك؛ كأسامة بن زيد، رضي الله عنهم أجمعين، وما كان ذلك إلا لترعرعهم تحت ظلال الإسلام، وهكذا ترى شباب وفتيان هذه السنِّ حتى يومنا هذا ممن ترعرعوا تحت راية الإسلام.

وإن كان لابد من النصائح والتوجيه وفَهم هذه المرحلة وخصائصها التي تحتاج إلى تنميتها في الخير، وإلا صارت سلبيَّة تؤدِّي إلى الشر؛ مثل: الحماس، والإقدام، ونصرة ما يراه الشابُّ حقًّا – مهما كان - دون خوف أو وجل أو تردُّد، واستعداده للتضحية في سبيل ذلك،

وتتميَّز هذه المرحلة أيضًا بالثورة الداخلية، وعلوِّ الهمَّة في طلب الكمال، وقوَّة العزيمة في تحقيق ما يريده، والتأثُّر بالواقع والأحداث التي يراها، فيلجئه ذلك إلى التفكير الدائب في تغيير الواقع الذي يحياه، ويحياه مجتمعه وأمَّته، وإن كان تفكيره غالبًا في التغيير السريع أو الراديكالي.

 وإن للشباب طاقةً واستعدادًا كبيرًا للعمل والانطلاق والإنجاز ونصرة الحق، فلا بد من توجيه هذه الطاقة إلى طريق الاستقامة والصلاح وسدِّ الثقوب التي تملأ ثوب الأمة، ومن أهم ما يوجَّه إليه الشاب فَهم الواقع جيِّدًا، وفي موضوعنا هذا – الاحتساب – توجيهه إلى فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي نتحدَّث عنه في نقاط مختصرة:

- إن هذه الأمة لم تنل أن تكون خيرَ أمة أُخرجت للناس عن محاباة أو مجاملة؛ بل بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شرطه الله تعالى لتكون هذه الأمةُ خيرَ الأمم؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فمتى أدَّت الأمة هذا الشرط، نالت الخيرية على الأمم، والنصر والتمكين؛ كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41]، ومتى أخلَّت بهذا الشرط، سُلبت هذه الخيرية، ونالت العقاب.

-إنّ من أهمِّ تكاليف هذا الدِّين العظيم الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر؛ فقد أمر الله تعالى به وذكره في مواضع عديدة من كتابه الكريم؛ مثل قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وهو صفة المؤمنين؛ قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، وهو من أعظم مهامِّ الأنبياء والرسل؛ قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]، وقال تعالى في وصية لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، وقال تعالى مُثْنيًا على الأمم السابقة القائمة به جماعاتٍ وأفرادًا: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 113، 114].

-كما استحقَّت الأمة الإسلامية الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استحقَّت الأمم السابقة لعنة الله وغضبه ونِقمته بترك ذلك الفرض العظيم؛ قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79]، وهذا تحذير للأمة الإسلامية أنهم لو اتَّبعوا نهج الأمم السابقة سيحلُّ بهم اللعنة والغضب بدلاً من الخيرية، وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من هذا؛ فعَنْ زَيْنَبَ بنتِ جَحْشٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمًا فَزِعًا يَقُولُ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِه - وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا))، قَالَتْ زَيْنَبُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ))[1].

-إنه لا يوجد حرية مطلَقة في أيِّ شريعة دينية أو دنيوية، وإلا فهي الفوضى وتركُ الفاسدين لينشروا الفساد؛ فالنهيُ عن المنكَر لا يُعَدُّ تعدِّيًا على الحريات؛ بل هو حماية للمجتمع من المجاهرين بالمعاصي والفجور، ولا يظنَّنَّ أهل الصلاح أنهم لا يَعنيهم المجاهرة بالمنكر ما داموا مهتدين؛ فقد حذَّر أبو بكر الصديق رضي الله عنه من هذا الفَهم في خُطبته: "أيُّها الناس، إنّكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، وإنَّكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ النّاس إذا رأوا المنكر فلم يغيِّروه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه))[2].

- إن حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو في الأصل فرض كفاية بشروطه؛ قال النووي: "ثُمَّ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيعُ أَثِمَ كُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا خَوْفٍ ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَتَعَيَّنُ كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَمُ بِهِ إلا هو، أو لا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَتِهِ إِلَّا هُو،َ وَكَمَنْ يَرَى زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ أَوْ غُلَامَهُ عَلَى مُنْكَرٍ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي الْمَعْرُوفِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم:ْ وَلَا يَسْقُطُ عَنِ الْمُكَلَّفِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ لِكَوْنِهِ لَا يُفِيدُ فِي ظَنِّه؛ِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا الْقَبُولُ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البلاغ}"[3].

- لا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال؛ قال النووي: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ كَامِلَ الْحَالِ، مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُرُ بِهِ، مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْه؛ُ بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْه؛ُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْئَانِ: أَنْ يَأْمُرَ نَفْسَهُ وَيَنْهَاهَا، وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ وَيَنْهَاهُ، فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا، كَيْفَ يُبَاحُ لَهُ الْإِخْلَالُ بِالْآخَرِ؟!"[4].

- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل مسلم ولا يختص بأصحاب الولايات؛ قال النوويُّ – رحمه الله -: "قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ؛ بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ؛ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِين؛َ فَإِنَّ غَيْرَ الْوُلَاةِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْعَصْرِ الَّذِي يَلِيهِ كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاةَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ تَقْرِيرِ الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ، وَتَرْكِ تَوْبِيخِهِمْ عَلَى التَّشَاغُلِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ إِنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى مَنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِه،ِ وَيَنْهَى عَنْهُ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّيْءِ، فَإِنْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْمُحَرَّمَاتِ الْمَشْهُورَةِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزِّنَا وَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا، فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاءُ بِهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِقِ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاجْتِهَادِ، لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَلٌ فِيهِ، وَلَا لَهُمْ إِنْكَارُهُ؛ بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ، أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، فَلَا إِنْكَارَ فِيهِ"[5].

-هناك ركنان أساسيان للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هما العلم والقدرة.

الركن الأول: العلم: وفيه تفصيل كبير ليس هنا موضعه، ونختصره فيما يلي:

1)العلم بالحُكم: ينبغي لمن يتصدَّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالِمًا بالأمر المأمور به أو المنهيِّ عنه؛ فالأمور التي يؤمر بها أو يُنهى عنها قسمان:

أ) ما يستوي في علمه أكثر الناس؛ مثل المعلوم من الدين بالضرورة؛ كوجوب الصلاة والصيام، وحرمة الربا والزنا وشرب الخمر، وتحريم ظلم الناس في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، وهلم جرًّا، ولا خلاف في ذلك.

ب) ما كان مختلَفًا فيه بين العلماء اختلافًا معتبرًا، فلا إنكار فيه مطلقًا، أو كان في دقائق مسائل الشرع التي حُسم الخلاف فيها، وأضحى وجه الحق فيها واضحًا عند أهل الاختصاص؛ مثل دقائق مسائل الاعتقاد؛ فلا يجوز لكل أحد أن ينكر فيها؛ لأنها تحتاج إلى فهم دقيق، ويمكن لأهل العلم والتخصُّص فقط النقاش والإنكار فيها.

2) العلم بوقوع المنكر بحيث يكون ظاهرًا بغير تجسُّس؛ قال تعالى: {ولا تَجَسَّسُوا}، والأصل عدم تتبُّع عورات المسلمين، ويجب إذا كان صاحب المنكر مستورًا لم يُعرف بشيء من المنكرات، ووقعت منه هفوة أو زلَّة، أن يُستر عليه ولا يُفضَح، أما إذا كان مشتهرًا بالمعاصي معلنًا بها، فهذا مجاهر فاجر، يُنكَر عليه ويُفضَح.

3)العلم بآداب الاحتساب: وأهمُّها ثلاثة آداب: أولها: الرفق؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه))[6].

وثانيها: الصبر: كما ذكرنا وصية لقمان لابنه بالصبر بعد الاحتساب؛ {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، فلا يتوقَّع الاستجابة مباشرة؛ بل يتوقَّع الإيذاء، ويهيِّئ نفسه للصبر عليه واحتساب الأجر؛ فإن هذا من الابتلاء في نصرة الدين وإزهاق الباطل وإظهار الحق والصدع به.

وثالثها: التدرُّج: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له درجات ومراتب حسب الحالة والواقع؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ))[7].

قال النوويُّ – رحمه الله -: "وَأَمَّا صِفَةُ النَّهْيِ وَمَرَاتِبُهُ فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِه))،ِ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَبِقَلْبِهِ))؛ مَعْنَاهُ: فَلْيَكْرَهْهُ بِقَلْبِه،ِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِزَالَةٍ وَتَغْيِيرٍ مِنْهُ لِلْمُنْكَرِ؛ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي وُسْعِهِ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:َ ((وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ))؛ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَقَلُّهُ ثَمَرَةً، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي صِفَةِ التَّغْيِيرِ، فَحَقُّ الْمُغَيِّرِ أَنْ يُغَيِّرَهُ بِكُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ زَوَالُهُ بِهِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا"[8].

وهذا الحديث ليس في الترتيب الزمنيِّ، وكيفية البَدء في تغيير المنكر؛ بل الترتيب في هذا الحديث بالنظر إلى الغاية؛ أي: إلى آخر ما ينتهي إليه الأمر لإزالة المنكر؛ فإن فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في تطبيقه لتغيير المنكرات لم يبدأ بالتغيير باليد حتى مع قدرته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، ومع توافر بقية الشروط؛ وإنما كان يبدأ بالتعريف والتذكير، ونحوهما؛ أي: إن مقصود الحديث: إذا لم يندفع المنكر إلا بذلك دُفع به إذا كان هناك قدرة على ذلك؛ فالحديث عمَّا يتعلَّق بالقدرة، لا في ترتيب التغيير وكيفيته.

لذا؛ وضع العلماء مراتب للتعامل مع مرتكب المنكر كالتالي:

المرتبة الأولى: التعريف: فقد يكون مرتكب المنكر جاهلًا، خاصة في هذا الزمان المنتشر فيه الجهل، مع الرفق والتلطُّف والرحمة والإرشاد والتوجيه، وإظهار الحرص عليه ألا يكون من أهل المنكرات.

الثانية: الوعظ والنصح والتخويف من الله تعالى، والتذكير به، والتحذير من مخالفته وعقوبته، ويكون هذا سرًّا فهذا أدعى لقبوله وألا تأخذه العزة بالإثم، وليدرك أن القصد النصح لا التشهير.

الثالثة: التغليظ بالقول، إذا لم يُجْدِ ما سبق، فلا مانع من إغلاظ القول بالضوابط الشرعية في خطاب الناس، ويكون ذلك في حدود ضيقة وعلى قدر الحاجة، ولا يقول إلا حقًّا.

الرابعة: التهديد والتخويف بالتغيير باليد، أو بالإبلاغ عنه إلى من يملك ذلك، أو التهديد بالهجران أو المقاطعة وعدم الزيارة، أو عدم تلبية دعوته وأكل طعامه، ولا يجوز له أن يهدِّده بوعيد ليس من حقه أن يهدِّده به؛ كإقامة حدٍّ، أو تحريق بيته، أو ما شابه ذلك.

الخامسة: تنفيذ التهديد من الهجر والمقاطعة، أو ما هدَّد به، ويكون ذلك عند الإصرار بعد استخدام كل ما سبق.

4) النظر في المآلات: وهو من العلم الواجب لمن يتصدى للاحتساب، أن يكون مدركًا لمآلات ما يقوم به؛ فالشريعة جاءت لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، ومنه تحقيق خير الخيرين ودفع شر الشرين، وميزان ذلك الشريعة، ويكفي في تقدير ذلك اليقين أو غلبة الظن؛ قال ابن القيم: "فَإِنْكَارُ الْمُنْكَرِ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ؛ الْأُولَى: أَنْ يَزُولَ وَيَخْلُفَهُ ضِدُّهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِلَّ وَإِنْ لَمْ يَزُلْ بِجُمْلَتِهِ، الثَّالِثَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ، الرَّابِعَةُ: أَنْ يَخْلُفَهُ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ؛ فَالدَّرَجَتَانِ الْأُولَيَانِ مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةُ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ، وَالرَّابِعَةُ مُحَرَّمَةٌ"[9].

ومثل العلماء للدرجة الرابعة بترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل عبد الله بن أبي ونهيه عن ذلك؛ لئلا يتحدث الناس أنّ محمدًا يقتل أصحابه، وكذلك نهيه تعالى عن سب آلهة المشركين مع أنها باطلة حتى لا يسبوا الله عَدْوًا بغير علم، وذكر ابن القيم مثالًا تطبيقيًّا من شيخه ابن تيمية لهذه القاعدة فقال: "وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ: مَرَرْت أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي، فَأَنْكَرْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ لَهُ: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ؛ فَدَعْهُمْ"[10].

الركن الثاني: القدرة: وقد تحدثنا عنها في ثنايا ما سبق، وقد قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والقدرة تنتقض بأمرين: الأول: العجز الحسي الفعليُّ.

والثاني: الخوف من المكاره الكبيرة: وهي المكاره المحقَّقة أو المتوقَّعة التي تلحق الإنسان في نفسه أو أهله أو بدنه أو ماله، ولا عبرة بالضرر اليسير كالكلمة النابية أو السب والشتم، وقد فرّق العلماء بين حالتين:

الأولى: توقُّع حصول الضرر البالغ عليه وحده: فهنا يكون حكم المكلَّف متردِّدًا بين أخذه بالرخصة والترك أو بالعزيمة والإنكار، ويختلف هذا من شخص لآخر، إلا أن العزيمة واجبة في حق العالم المقتدى به الذي يفتن به الناس ويضيع الحق إن أخذ بالرخصة، مثلما حدث في فتنة خلق القرآن مع الإمام أحمد بن حنبل.

الثانية: توقُّع حصول ضرر على أهله أو طائفته أو مثل ذلك، فيمتنع عن النهي إلا بإذنهم؛ لأنّه حقهم، وليس له أن يلحق بهم أذى بغير إذنهم ورضاهم.

وأخيرًا: كلُّ ذلك مبنيٌّ على أساس غلبة ظن أو يقين من يغيِّر المنكر، وإن النهيَ عن المنكر ليس عقوبةً؛ إنما هو تذكير باللسان، أو تغيير وإزالة باليد، فإن لم يستطع فلينكر بقلبه، ولا يجتمع مع المنكر، فإن لم يستطع إزالته، زال هو عن المنكر. والأمر والنهيُ حق لكل مسلم بشروطه كما ذكرنا، ويجب الاقتصار في التغيير على قدر الحاجة، أما العقوبة وإقامة الحد فهي حقٌّ للحاكم أو من ينوب عنه، فالعقوبة تكون على ما مضى، وتغيير المنكر يكون في المنكر في الحال أو المستقبل.

 


[1] متفق عليه.

[2] أخرجه الترمذي في كتاب الفتن وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه أحمد في مسند أبي بكر وابن ماجه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[3] شرح النووي على مسلم (2/ 23).

[4] المرجع السابق.

[5] المرجع السابق.

[6] رواه مسلم.

[7] رواه مسلم.

[8] شرح النووي على مسلم (2/ 25).

[9]إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 12).

[10] إعلام الموقعين عن رب العالمين (3/ 13).

0 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً