الإسلام هو الدين الربَّاني الذي ختم الله به دعوات الرسل وهدايتهم للبشر، وهو دين خالد باقٍ إلى قيام الساعة، له كتاب ضمِن الله حفظه من التبديل والتغيُّر والزيادة والنقص، وله سنَّة محمدية تفسر هذا الكتاب وتوضح معانيه وتبسط أحكامه، وتبين قواعده وتشرح فروعه، ولم يحصل مثل ذلك لأي كتاب من الكتب السماوية السابقة؛ لأنها كانت موقوتة بوقت محدودٍ ينتهي العمل بها بانتهائه، أما القرآن والهداية المحمدية فهما باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، لا ينسخهما ناسخ، ولا يحدهما حد، ولا يقف في طريقهما شيء، وإن بلغ أعداؤهما في الكيد والمكر كل مبلغ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وقال تعالى في سورة آل عمران: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) وقال تعالى فيها أيضًا: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فعلى كل من بلغه الإسلام بوجهٍ تقوم به الحجة عليه أن يدخل فيه ويتبعه ويتمسك به، وهو دين صالح لكل الشعوب في كل زمان ومكان، ومعناه التسليم والانقياد لأمر الله تعالى باللسان والقلب والجوارح، والإسلام في عقيدته وأحكامه وآدابه، وهي الأخلاق، وسط بين طرفين، لا إفراط ولا تفريط، فهو يثبت في عقيدته توحيد الله تعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، لا يعطي منها غير الله سبحانه مثقال ذرة ولو كان ملكًا مقربًا أو نبيًّا مرسلًا أو صديقًا صالحًا.
فأما توحيد الله في ربوبيته فتبين في نحو قوله تعالى في سورة المؤمنين: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
هذه محاجة أمر الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يحاج المشركين بها، فقال له: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعترفون بأن الله رب كل شيء وخالق كل شيء وهو المدبر لشؤون الخلق كلهم ومع ذلك يعبدون معه غيره، قل لهم: لمن الأرض ومن فيها من حيوان عاقل وغير عاقل ونبات بسائر أنواعه وجماد؟ من خلق ذلكم ومن يملكه ومن يسيره؟ فسيعترفون بأن الله وحده هو الذي يملك الأرض ومن فيها، فقل لهم: أفلا تذكرون؟ فلماذا تعبدون معه غيره بالخوف والرجاء والذبح والنذر والدعاء والطلب والالتجاء عند الشدائد والملمات؟ مع أن أولئك الذين تعبدونهم فقراء عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا فكيف بغيرهم؟ ثم قال تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)، قل لهم يا محمد، قل للمشركين: من رب السماوات وما فيها من الكواكب السيارة والنجوم وغير ذلك من الآيات، من خلقها؟ ومن يدبر شؤونها؟ ومن رب العرش العظيم، الذي هو سقف المخلوقات ولا يعرف قدره إلا الله؟ فإنهم سيعترفون ويقولون الله هو رب ذلك كله، قل: أفلا تتقون الله وتتركون ما أنتم عليه من عبادة غيره؟ ثم قال: (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي من يملك كل شيء وغيره لا يملك شيئًا بل هو نفسه مملوك؟ ومن السيد العظيم الذي يجير - أي يحمي - من شاء، فلا يستطيع أحد أن يناله بأذى، ولا يجار عليه، ولا يستطيع أحد أن يحمي ويؤمن من أراد الله عذابه أو إهلاكه؟ فسيعترفون ويقولون: الله وحده هو الذي يستطيع ذلك، فقل لهم: كيف تذهب عقولكم فتشركون مع الله غيره في عبادته؟ قال تعالى في سورة الأعراف: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
قال في اللسان: "الرب في اللغة يطلق على المالك والسيد المدبر والمربي والقيم والمنعم، ولا يطلق على غير مضاف إلا على الله عز وجل". اهـ.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "يخبر تعالى أنه خالق العالم، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الذهن أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس.
وقوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) قال فيه الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، وهذا أحسن ما قيل في تفسيره، فإن الاستواء في لغة العرب معلوم معناه كيفية ذلك لا يعلمها إلا الله، واعتقاد السلف الصالح إمرار آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، ثم قال ابن كثير وقوله تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا أي سريعًا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى، أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته، ولهذا قال منبهًا: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي له الملك والتصرف (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) كقوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) الآية. قال صاحب اللسان: "وتبارك الله تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم لا تكون هذه الصفة لغيره". اهـ. والعالمون أجناس الخلق، فهو ربهم ومالكهم والمتصرف فيهم وحده لا شريك له. وقوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) قال ابن كثير: "أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم قيل معناه: تذللًا واستكانة وخيفة كقوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) الآية. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إن الذي تدعون سميع قريب" الحديث، وعن عبدالله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور". اهـ.
فرفع الصوت في الدعاء والابتداع فيه من الاعتداء الذي نهى الله عنه.
وقوله: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) أي خوفًا مما عنده من وبيل العقاب وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى: (َرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ)" قاله ابن كثير في تفسيره. اهـ.
وأما توحيد العبادة فمعناه توحيد التوجه والطلب فإذا تقرر أن الله رب العالمين هو خالقهم ومالكهم ورازقهم ومدبر شؤونهم كلها وهو بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير، وجب أن لا يتوجهوا في طلب جلب النفع ودفع الضر إلا إليه ولا يتخذوا من دونه وليًّا ولا نصيرًا واقتصر في الاستدلال على ذلك بآيتين في سورة فاطر وآيتين في سورة الأحقاف، ففي سورة فاطر قال تعالى بعد ذكر دلائل ربوبيته: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) فأخبر سبحانه أن كل من يدعى من دونه كيف ما كانت مرتبته لا يملك للداعي شيئًا من نفع أو ضر وأن غيره لا يسمع دعاء الداعين ولو سمع لم يقدر على إجابتهم ولا إسعافهم بشيء مما طلبوا، وأن المدعوين من دونه سواء أكانوا ملائكة أم رسلًا أم صالحين أم غيرهم سيكفرون يوم القيامة بدعاء من دعاهم في الدنيا وسمى دعاءهم شركًا ومعنى يكفرون: يتبرؤون.
وفي سورة الأحقاف: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) فأخبر سبحانه أنه لا أضل ولا أبعد عن الحق ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهو أي المدعو غافل عن دعاء الداعي إن كان من الأنبياء والصالحين فهو مشغول بما أعد الله له من الكرامة والنعيم، وإن كان من الطالحين فهو مشغول بما أعد الله له من العذاب الأليم وإذا حشر الناس يوم القيامة وعلم المدعوون بدعاء الداعين لهم كانوا لهم أعداء وكفروا بدعائهم وسماه الله عبادة، وكذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة في الحديث الصحيح: "الدعاء هو العبادة"، وفي حديث آخر: "الدعاء من العبادة". رواهما الترمذي. وأما الأحكام فقد أحل الإسلام جميع الطيبات ولم يحرم منها شيئًا قال تعالى في سورة الأعراف: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وحرم الخبائث كلها ولم يبح منها شيئًا ومنها الخنزير والميتة والدم والخمر وكل مفسد للعقل الذي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على البشر وأكل الربا والغصب والسرقة والغش والنجش وهو الاحتيال في البيع والقذف وهو اتهام المحصنات والمحصنين بالزنا، والزنا والسرقة وقطع الطريق وأكل أموال الناس بالباطل كالقمار وبيع الغرر وسائر أنواع الاحتيال.
وأما الآداب فقد جاء الإسلام بأكمل الآداب وأكرم الأخلاق، فمنها بر الوالدين وصلة الأرحام بالإحسان إلى الأقارب وإكرام الجار كيف ما كان جنسه أو لونه أو دينه وإطعام الطعام وإفشاء السلام وإكرام اليتامى والرفق بالضعفاء وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى في سورة النحل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) الآية. وأمر بإيفاء الكيل والوزن وأوعد على نقصهما بالويل قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ). وأمر بكظم الغيظ والعفو عن الناس، ومدح الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذم التبذير والإسراف، وحث على الصدقة وذم الكبر والعجب والحسد والبخل والرياء والغيبة والنميمة والتجسس وقبول أخبار الفساق بدون تثبت وأمر بالصبر والتواضع والتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى ووضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزانًا دقيقًا يميز المسلم الصادق من المنافق المدعي الكاذب، فقال فيما رواه البخاري ومسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وفي رواية انفرد بها مسلم: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". رواه البخاري. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة". يعني من قتل شخصًا من غير المسلمين بينه وبين المسلمين عهد لا يشم رائحة الجنة، وسوى الإسلام بين جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق التي لا تجدها في غيره أبدًا ولو ذهبنا نعدده لطال بنا القول.
المذاهب الحديثة
(الاشتراكية الشيوعية)
اعلم أيها القارئ الكريم أن للإسلام نظامًا اقتصاديًا مستقلًا مخالفًا لنظام رأس المال والاشتراكيات بأنواعها والشيوعية كل ما يدعى في هذه المذاهب من خير فقد سبق إليه الإسلام قبل التفكير فيها بقرون كثيرة، وكل ما فيها من شر فقد ابتعد عنه وحذر أهله منه، فهو يخالف نظام رأس المال بفرض الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم وما يخرج من الأرض من حبوب وثمرات والحق في المعدن والركاز وهو ما وجد مدفونًا في الأرض من الأزمنة السابقة وكذلك فرض كفارات، ككفارة الأيمان وكفارة الظهار وكفارة قتل النفس خطأ وكفارة الإفطار في نهار رمضان بلا عذر، وحرم الربا وبيع الغرر والبيوع الفاسدة، وبذلك ضمن التوازن النسبي في الممتلكات الثابتة والمنقولة، وحفظ الفقراء من استبداد الأغنياء واحتكارهم للثروة، ولم يحجر على أصحاب الكفاءات بل تركهم أحرارًا في استخدام مواهبهم واكتساب الأموال بطرق مشروعة إذا أدوا حقهما، ومن أراد أن يجعل الناس سواء، فليس لجهله دواء، قال تعالى في سورة النحل: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) وسبب التفاضل في الرزق التفاضل في المواهب التي بها يكتسب الرزق، ولن يستطيع أحد من الأفراد والجماعات لا بسيف ولا مطرقة ولا محراث ولا بأي نوع من أنواع الإرهاب أن يجعل الناس في المواهب سواء، وإذا اختلفوا في المواهب فلا بد أن يختلفوا في الرزق سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، نزل المطر في أرض تثمر الكمأة بالعامية المغربية (الترفاس) وانطلق جماعة من الناس يبحثون عن الكمأة ثم رجعوا بعضهم حصل عشرين رطلًا، وبعضهم حصل رطلين، وبين هذين درجات كثيرة متفاوتة، فهل يجب على صاحب العشرين أن يقتسم مع صاحب الرطلين؟ هذا جور وظلم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، خرج ثلاثة صيادين إلى البحر فوضعوا شباكهم أو ألقوا سناراتهم فرجع كل واحد بما قسم له فهل يجب أن يخلطوا ويقتسموا؟ لا، لا هذا ظلم وجور، خرج ثلاثة صيادين لصيد الحجل في الهضاب والغابات وآخرون لصيد الغزلان في الصحراء، فهل يجب أن يجمعوا ما حصلوا عليه ويقتسموا بالسوية؟ لا، لا، هذا ظلم وجور، التفاوت في المواهب يستلزم التفاوت في الأرزاق لا محالة، ودواؤه فرض الزكاة والقرض بلا منفعة، وفرض الكفارات والحث على الصدقات.
الاشتراكية ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
الاشتراكية القومية: وهي التي دعا إليها موسوليني وهتلر، وحاصلها أن يعتبر الشعب كله عمالًا، والحكومة هي التي تتصرف في جميع الأموال فتعين لكل عامل عمله وأجره ولا يجوز لأحد أن يرفض ما عينته له الحكومة، وليس إلا حزب واحد وعلى الشعب أن ينتخب حكومته من ذلك الحزب، فهو الوصي على الشعب الذي ينظر في مصالحه في سلمه وحربه، وغاية الحزب والحكومة أن يكون شعبه فوق جميع الشعوب غنًى وقوة وسعادة، ولكل فرد من أفراد الشعب الحق في الحصول على عمل وأجر يكفل معيشته وله الحق أن يدخر ويملك ما قدر عليه من الممتلكات المنقولة وغيرها بشرط أن يؤدي الضرائب المفروضة، والملاك يقولون إن تلك الضرائب ثقيلة وكثيرة حتى إنه لا يبقى لهم بعد أخذها قليل يعيشون به، ويدعون أن حال العامل أفضل من حالهم وأن الحكومة تحصي عليهم كل شيء. هذا مبلغ علمِيْ فيما رأيته وسمعته، ولكني لم أسمع قط بوجود رشوة.
أما المناصب العالية فهي خاصة للمنتسبين إلى الحزب، وهذا النظام لم يعمر طويلًا حتى يعلم صلاحه أو فساده، ولما جر على أهله حربًا طاحنة أحرقت الأخضر واليابس فإن جمهور الشعب الألماني مقت هذا النظام ورفضه ولا يريد العودة إليه، ومن المؤسف أن بعض البلدان العربية اختارته وتمسكت به وعضت عليه بالنواجذ ودانت به مع أن أهله تبرأوا منه. هذا مع ما لهم من العلم والخبرة والتعاون والنجدة، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين.
النوع الثاني:
الاشتراكية الديمقراطية: كالتي عليها حزب العمال البريطاني الحاكم وأحزاب أخرى في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، وهذا النوع من الاشتراكية ليس فيه استبداد ولا خنق لحريات الشعوب، وإنما يبنى على الدعاية ولا يمنع الملك الفردي لكنه يوجب أن تكون المصالح العامة كالمعادن والمناجم وسكك الحديد وما أشبه ذلك ملكًا للحكومة التي تمثل الشعب، فهذه الموارد يجب أن تكون ملكًا لعموم الشعب لا يستبد باستغلالها فرد ولا جماعة؛ لأن ذلك يفضي إلى احتكار بعض الأفراد أو الجماعات مقدارًا كبيرًا من الأموال والممتلكات على حساب أبناء جنسهم، وبذلك تنقسم الأمة إلى أغنياء طاغين قد تفاحش غناهم وتجاوز الحدود، وفقراء مدقعين قد تفاحش فقرهم فهم في غاية الذلة والاستكانة لا رأي لهم ولا كرامة، موطوئين بالأقدام، عبيدًا أرقاء، ليس لهم إلا السمع والطاعة، وذلك ظلم وحيف في نظر الاشتراكية والديمقراطية، ولا تمنع هذه الاشتراكية وجود أحزاب مخالفة لها؛ لأنها كما قلنا لا تنشر مبادئها بالقهر والجبر بل بالدعاية والإقناع وتقدس حرية الرأي والكلام والعقيدة والعمل والتنقل.
ولما كان هذا النوع من الاشتراكية يبيح الملك إلا ما تقدم استثناؤه؛ خاف من تفاحُش الغنى وتعاظم الثروة ففرض ضرائب تصاعدية على قدر الدخل والمحاصيل، حتى لا تتسع المسافة بين الأغنياء والفقراء وهذه الاشتراكية لا تتعرض للدين ولا تتدخل في عقائد الناس، وأقطابها متدينون معظمون لرجال الكنائس متفقون معهم وهم يحاربون نظام رأس المال ويتهمون المتبعين له بأنهم كاذبون في ما يزعمونه من الدعوة إلى الحرية والديمقراطية لأنه متى لم تقيد الثروة بالقيود التي تقدم ذكرها طغى الأغنياء على الفقراء (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) فالرجل الذي يملك معامل أو مزارع أو متاجر تحتاج إلى آلاف العمال لا بد أن يفرض إرادته على أولئك العمال فلا يستطيعوا أن ينتخبوا غيره إذا رشح نفسه ليكون نائبًا في مجلس النواب أو يكون عينًا في مجلس الأعيان، وهذا يتنافى مع تحقيق الحرية وإقامة العدل والمساواة التي يزعم أصحاب رؤوس الأموال أنهم أنصارها، أما أنصار عقيدة رأس المال فلهم حجج يدفعون بها عن أنفسهم، منها أن الحكومة تستنكر الاحتكار على أفراد الشعب وجماعاته وتحرمه عليهم وتحله لنفسها، ومنها أن الاستيلاء على المصالح العامة يعطل حركة التنافس بين الأفراد والجماعات فيضعف النشاط ويقل الحماس ونتيجة ذلك قلة المحاصيل وفرق كبير بين من يشتغل لنفسه ويشتغل في ما يعود عليه بالنفع والخير العميم وبين عامل يعمل في مصلحة حكومية لا يهمه ربحها أو خسارتها وإنما يهمه الراتب الذي يحصله في نهاية الأسبوع أو في نهاية الشهر، هذا مع اتفاق الفريقين على حرية الرأي والعقيدة وسائر الحريات ولذلك نراهم متعايشين في شعب واحد متعاونين على ما يرون فيه الخير لأمتهم وإن اختلفت وسائلهم، وقد مضى على هذا النوع من الاشتراكية زمان طويل في بلدان مختلفة وظهر أنه صالح للبقاء عندهم.
النوع الثالث من الاشتراكية:
النوع الثالث من الاشتراكية التي يزعم أهلها أنها مقدمة للشيوعية، وتسمى (البولشفية) وهذا النوع يبنى على سلب جميع الممتلكات وجميع الحريات والمعتقدات ويجعل الإنسان آلة صماء يحركها الرؤساء فتتحرك ويوقفونها فتقف، ويأمرونها أن تنطق فتنطق بما يشتهون وأن تسكت فتسكت، وأن تمدح فلانًا فتقدسه في أول النهار، ثم يأمرونها أن تلعنه في آخر النهار، فتأتمر ولا تفكر فالاشتراكي المخلص عندهم هو الذي يكون كالعقل الإلكتروني، وليس مقصودي بهذا الكلام أن أشتمهم، ولكني أريد بيان الحقيقة كما هي في نظري، وقد دخلت برلين الشرقية وبقيت فيها أيامًا وأنا أذكر ما شاهدته وخبرته وتحققته.
فأما سلب الأموال والممتلكات فإنه لا يجوز لأحد أن يملك أرضًا ولا دارًا ولا سيارة ولا متجرًا ولا يملك إلا ثيابه التي على ظهره وإلا أجرة عمله، بشرط أن لا يدخرها لو كان فيها متسع للادخار.
ودونك مثلًا يعينك على تصور هذه الحقيقة، رأيت في برلين الغربية سنة 1945م - بتاريخ النصارى - قبل بناء سور برلين، عجوزًا تسكن في غريفة حقيرة من الفندق الذي كنت فيه نازلًا فأخبرتني صاحبة الفندق أن تلك العجوز قبل الحرب كانت لها ثروة طائلة فلما انتهت الحرب بخسران ألمانيا أراضيها الشرقية استولى الشيوعيون على أملاكها كلها، ولم يبقوا لها منها شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، وبقي لها جزء قليل من بيت في برلين الغربية وقد أعطاها الشيوعيون غرفة في بيت من برلين الشرقية وجعلوا لها أجرة لسد الرمق وفرضوا عليها أن تشتغل في كنس الشوارع فهي تشتغل مدة طويلة إلى أن يجتمع لها من كراء ذلك الجزء الضئيل الذي تملكه من ذلك البيت في برلين الغربية مقدار من المال فتنتقل إلى برلين الغربية وتستأجر غريفة رخيصة الثمن وتنفق مما اجتمع لها حتى ينقضي ثم ترجع إلى الجحيم.
أما بعد بناء السور الذي هو عكس ما قال الله تعالى: (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) فلا أدري ما فعل الله بتلك المسكينة وأمثالها من الأغنياء الذين قلب لهم الزمان ظهر المجن فأصبحوا بؤساء بين عشية وضحاها بسبب الاحتلال الروسي وفرض الحكم الشيوعي على ذلك الشعب المنكوب.
ودونك مثلًا آخر:
حدثنا شهود عيان أن أهل بيت من الأغنياء الذين (ولا أقول أسرة ولا عائلة) من ألمانيا الشرقية لما دهمهم الاحتلال الروسي أمروا بإحضار طعام الضيافة للفاتحين الغزاة، فأمروا خدمهم بذبح المواشي وطهي الطعام وتوجهوا إلى الغابة وعلقوا فيها حبالًا وقتلوا أنفسهم خنقًا لأنهم يعلمون أن الضيوف الثقلاء بعد أكلهم وشربهم الخمور يسلبونهم كل شيء حتى الخواتم التي في أصابعهم ويطردونهم من ديارهم ومزارعهم ويفرضون على كل من سلبوا أرضه أو داره أن يكون بعيدًا من الأرض المسلوبة أو الدار المغصوبة والمعمل مسافة لا تقل عن ثلاثين كيلومترًا، ومتى وجد في مكان يقرب من ممتلكاته السابقة أقل من ثلاثين كيلومترًا يعاقب عقابًا شديدًا.
ودونك مثالًا ثالثًا:
من المعلوم أن الشعب الجرماني الذي يسمونه بالألماني من أرقى شعوب أوربة مدنية وحضارة لا يمتري في ذلك اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، وقد انقسمت هذه البلاد الجرمانية وهذا هو الاسم الذي سمتها به العرب في عام تخطيط البلدان بعد الحرب العالمية الأخيرة قسمين: غربي وشرقي، فالقسم الغربي مع ما أصابه من النكبات في زمان الحرب الطحون رجع أحسن مما كان، يشهد بذلك كل مسافر وسائح رأى تلك البلاد فالمباني التي تهدم ثمانون منها في المائة بفعل قنابل الأعداء أعيدت أحسن مما كانت عليه، وكذلك المعامل والمزارع والطرق، هذا في القسم الغربي.
أما القسم الشرقي فإنه خراب كأنه انتقل من يد دولة متمدنة إلى دولة همجية، سافرنا بالسيارة من المغرب فعبرنا المضيق من سبتة إلى الجزيرة، وعبرنا اسبانيا ففرنسة فالقسم الغربي من ألمانيا، وكان الطريق من كلونيا إلى هنوفر التي هي على حدود ألمانيا الشرقية من أحسن طرق أوربا مقسومًا قسمين بينهما حاجز وكل منهما تسير فيه أربع سيارات ولا تحتاج السيارة إلى توقف لأن السيارات التي تعبر الطريق عرضًا لها ممرات إما تحت الأرض وإما فوق الجسور وقد تعجب في ذلك سائق سيارتي تبرعًا، وهو الأخ الحاج أحمد هارون، فقال لي: أريد أن أجرب هل أضطر إلى نقص سرعة السيارة أم لا أضطر فبقي ساعتين بمقياس واحد لم يضطر إلى أن ينقص شيئًا منه، وأسماء الأماكن وعلامات الطرق المختلفة والأضواء التي تقوم مقام شرطة المرور كل ذلك في غاية الإتقان بحيث قلما يحتاج المسافر إلى أن يسأل عن شيء أو يضل طريقه هذا في القسم الغربي. أما في القسم الشرقي فالأمر بعكس ذلك الطريق مهمل لم يصلح منذ سنين كأنه صحراء وليس فيه علامات ولا أضواء فتجد السائحين ضائعين يسأل بعضهم بعضًا، ولا هادٍ ولا مرشد.
والشعب الذي يسكن القسمين شعب واحد لا يختلف إلا في نظام الحكم، وهناك مثل آخر وهو برلين الغربية، وبرلين الشرقية، من المعلوم أن مدينة برلين مدينة واحدة كانت عاصمة جرمانية كلها قبل الحرب، وبعد هزيمة الجرمانيين في الحرب العالمية الأخيرة أصبحت برلين جزيرة في بحر ألمانيا الشرقية تحيط بها أراضي ألمانيا الشرقية من جانب، فاقتسمه الغالبون فأخذ الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون القسم الغربي منها وحكموه مدة ثم سلموه إلى حكومة ألمانيا الاتحادية، أما القسم الشرقي فبقي تابعًا لحكومة ألمانيا الشرقية تحت نفوذ الروسيين، وكل من زار قسمي برلين الشرقي والغربي لا يكاد ينقضي عجبه، يرى القسم الغربي وسكانه ثلاثة ملايين يعيشون في أرغد عيش في غاية الرفاهية والازدهار فترى المخازن والمتاجر ملأى بأنواع التحف والبضائع والمطاعم والمشارب والحدائق والملاعب والشوارع غاصة بأجمل السيارات والمباني التي تهدمت كلها في زمان الحرب قد أعيد بناؤها حتى صارت أجمل مما كانت وترى السكان يرفلون في أفخر الثياب والزي، أما إذا أردت أن تدخل إلى برلين الشرقية فإنك تجيء إلى مدخل السور وتسلم جواز سفرك وتعطي بطاقة صغيرة وتقف مع صفوف الواقفين حتى يجيء دورك فتنزل إلى سرداب تحت الأرض وتنتظر حتى تمتحن في أربعة مكاتب بأسئلة وأجوبة والمكتب الرابع بعد ما يعرف مقدار ما عندك من النقود ويسجلها يرد لك الجواز، فتدخل في القسم الشرقي وتجده يبابًا خرابًا كأن خيلًا أغارت عليه ونهبته، وأبدلت سعده نحسًا ونضرته كآبة وسعادته شقاء، فلا مباني تعجبك ولا أسواق ولا مطاعم ولا سيارات جميلة ولا بضائع في المخازن والناس في ثياب حقيرة والنساء لابسات ثيابًا خسيسة، فكأنك خرجت من عالم إلى عالم، فإن قلت: وما الموجب لبناء السور؟ فالجواب أن الشيوعيين أو الاشتراكيين كما يحبون أن يدعوا يزعمون أنهم وحدهم يعيشون في النعيم في الحرية والديمقراطية والعالم كله يعيش في شقاء العبودية تحت نظام رأس المال الطاغي أو الاستبداد الظالم ولكن رعاياهم لا تصدق هذا الزعم، ولذلك لم يزالوا يفرون من ذلك الفردوس المزعوم إلى برلين الغربية فتنقلهم الطائرات إلى برلين الغربية حيث يستنشقون نسيم الحرية ويشعرون بأنهم أحرار يسيرون في أرض الله الواسعة حيث يشاؤون، فلما عجزت حكومة ألمانيا الشرقية تحت المراقبة الروسية أن تقنعهم بما تزعم من الدعاوى أرادت أن تضرب سورًا على ذلك الفردوس وتنصب عليه الأسلاك الشائكة والرشاشات والحرس المسلح ليلًا ونهارًا حتى لا يفر واحد من فردوس الشيوعية ونعيمها إلى عذاب نظام رأس المال وحجميه، ومع ذلك كله لم تنقطع الهجرة والفرار وقد هرب من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية بواسطة برلين الغربية منذ نهاية الحرب أكثر من أربعة ملايين وحتى بعد بناء السور لا يزال الناس يهربون ويتركون بيوتهم وأمتعتهم ويفرون بأنفسهم مؤثرين الحرية على كل شيء سواها من متاع الدنيا، وحوادث هذا الفرار لا تزال تتلى صباح مساء في الإذاعات على مسامع القراء وما أحسن المثل العامي الذي يقول: (حتى كلب ما هرب من دار العرس) معناه بالفصحى: (لا كلب يفر من الدار التي تصنع فيها وليمة العرس بل بالعكس كل كلب يحب أن يأتيها لينال من فضلات الطعام).
ومن أغرب ما سمعته من إذاعة لندن في هذا الصدد أن خمسة وعشرين شخصًا اتفقوا على أن يحفروا نفقًا يبتدئون من دار أحدهم وكانت داره بقرب السور فقضوا مدة في الحفر كل ليلة يحفرون ساعات ويقومون بأعمالهم المفروضة عليهم في النهار حتى وصلوا النفق إلى مبنى في القسم الغربي ولما انتهى النفق خرجوا كلهم ذات ليلة وتركوا الدار تنعي من بناها، وهناك حوادث كثيرة طريفة وعجيبة يعرفها من يتتبع مثل هذه الأخبار.
وأما سلب الحريات فيجب على كل عضو في الحزب أن يكفر بجميع الأديان وأن يؤمن بعصمة كارل ماركس في كل ما شرعه واعتقده ولينين، وكان ستالين ثالث ثلاثة إلى أن خلعه نائبه وشريكه في كل ما ارتكبه خروتشوف بعد وفاته فبطلت قدسيته عند بعض الشيوعيين وبقيت ثابتة عند بعضهم، أما من لم يكن من المشتركين في الحزب فيجوز له أن يقول إنه مسلم أو نصراني بشرط ألا يرد شيئًا ولا ينتقد شيئًا من نظام كارل ماركس ولا من الأنظمة التي يضعها الحزب الشيوعي ومع ذلك يكون محتقرًا موضع سخرية واستهزاء.
أما في السياسة فلا يجوز له أن يعتقد إلا سياسة الحزب وإن تناقضت يتناقض معها فكل الزعماء الذين رفضهم الحزب يجب على جميع الناس أن يقلبوا لهم ظهر المجن ويذموهم بعدما مدحوهم أعظم المدح كتروتسكي ومالينوف ومولوتوف وخروشوف. وأما ستالين فقد تقدم خبر رفعهم له إلى درجة التقديس ثم خفضهم له إلى درجة الإجرام.
وأما حرية العمل فهي معدومة، فيجب على كل إنسان ذكرًا كان أو أنثى أن يقبل العمل الذي تفرضه عليه الحكومة في المكان الذي تعينه له بالأجر الذي تعينه له والساعات التي تعينها له ولا يجوز له أن ينتقد شيئًا من ذلك، وإلا صار متهمًا بالخيانة واستحق العقاب الشديد على قدر انتقاده وكذلك حرية التنقل والسفر إلى الخارج لا يجوز لأحد أن يفكر فيه وقد شاهدت في برلين الشرقية الصبيان في سن أربع عشرة سنة يوبخون والديهم ويتهمونهم بالرجعية وعدم الإخلاص للحزب والجمود على الأفكار السخيفة والآباء والأمهات يخافونهم، والواجب على كل ملك ورئيس من رؤساء المسلمين أن يحفظ شعبه من هذه المذاهب التي تجلب الشقاء والشر ويجب أن تستمسك بحق الشعوب إذا كان غلاة الشيوعيين وكلهم غلاة يسمون الدين أفيون الشعوب فنحن نسمي نحلتهم سل الشعوب ولسنا من المؤثرين المحتكرين حتى نتهم بأننا نعارضهم محافظة على أموالنا ولكن النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أوجب علينا أن ننصح لجميع الشعوب وخصوصًا المسلمين أن يبتعدوا من جميع أنواع الاشتراكية اسمًا وعقيدة وعملًا، ففي ما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية لهم وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسع الله عليه:
ومَن لم يسَعه ما أتى عن محمدٍ * فلا وسَّع الرحمنُ يومًا على الغرِّ
أما التسمية فقد قال الله تعالى: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) آخر سورة المؤمنين.
وأما العقيدة والعمل فقد تقدم أن الإسلام سبق إلى كل خير وتجنب عن كل شر وكل ما يدعونه من المواساة وابتغاء العدالة بين أفراد الشعب ظهر أنه غير صحيح، فقد أخبرني السيد أحمد موسلر المسلم الألماني، في بيته ببرلين الغربية، قال: كنا نعيب على حكومة هتلر أنها تدعي الاشتراكية لتحقيق المساواة بين أفراد الشعب ومع ذلك كان طعام الضباط يختلف عن طعام الجنود فكان للضباط مطبخ فيه ألوان من الطعام ولعامة الجنود مطبخ آخر فيه ألوان دونها في الجودة فلما انهزم الجيش الألماني وقعت في أسر الروسيين فأخذوني إلى موسكو وبقيت هنالك سنتين فرأيت للجيش الروسي خمسة مطابخ بعضها أعلى من بعض يعني أن الطعام عندهم خمس درجات: الدرجة العليا لكبار الضباط والثانية للمتوسطين والثالثة للصغار والرابعة للعرفاء والخامسة لعامة الجند، قال: فعلمت أن كلا الفريقين في دعواه الاشتراكيون القوميون والاشتراكيون الشيوعيون كلهم مخادعون، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة البقرة: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.