الإيمان ضرورة إنسانيةمقالات

نديم الجسر

في فلسفة البراغماتيزم، التي سموها بالعربية (فلسفة الذرائع): أن الفكرة إنما تكون (حقًّا) لأنها (نافعة)، وإنما تكون نافعة لأنها حق. وأن (الحق والنافع) يعبران عن شيء واحد، أي أن القضية تصبح حقًا عندما تبررها العواقب. فنحن في زعم البراغماتيزمية الأمريكية نخلق (الحقيقة) ونخلق (الحقيقي) حسب حاجة المجتمع.

إن هذه الفلسفة التي تتخذ من القيمة العملية للفكرة مقياسًا للحقيقة، ليست صحيحة في أساسها وليس هذا مقام الكشف عن جوانب الخطأ فيها. ولكننا نتخذ منطلقًا لطرح السؤال الآتي: هل نبدأ التفكير في (الحق) أولًا، لنستخرج منه (النافع) أم نبدأ التفكير في (النافع الضروري) لنقول عنه إنه حق؟

إنني مع الشباب المثقف بالذات، وفي قضية الإيمان بالذات، أرى أن نبدأ بالثاني ولكن من أي جوانب النفع والضرورة نمسك خيط الجدل مع هؤلاء الشباب الذين تحيط بهم الشكوك في الدين من كل جانب؟

يقول القرآن: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} فكيف إذا كان هذا الإنسان من الشباب المزهو بسلاح العلم المجادل في كل القيم؟

إن السنين الطوال سوف تنضج على جمر العذاب، تفكير الشباب، حتى يصدقوا أن الإيمان (حق وضرورة).

ولكننا نريد أن نختصر لهم السنين الطوال، ونوفر عليهم عذاب الندم والحسرة إذا {جَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} كما يقول القرآن. فمن أين نبدأ الكلام في أن الإيمان بالله ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية؟

لا ريب في أن البداية يجب أن تكون أمرًا نتفق نحن والشباب على أنه (حق وضرورة)، فما هو هذا الأمر؟ إنه (إنسانيتنا) التي يمكن أن يجادل الشباب في كل شيء إلا فيها.

يقول ابن مسكويه في كتابه الموجز الجليل (تهذيب الأخلاق): إن المزية الوحيدة التي يتميز بها الإنسان عن الحيوانات الكثيرة كلها هي (مكارم الأخلاق).

ذلك أن كل مخلوق يشترك مع غيره من المخلوقات في بعض الصفات، ويمتاز عنها لنفسه بصفة ومزية خاصة لا يشاركه فيها غيره كالأسد يمتاز بالقوة والفرس بسرعة الجري، والبغل والحمار بحمل الأثقال، والعندليب والكنار بالتغريد، والطاووس بجمال الشكل، إلى غير ذلك.

أما الإنسان فإنه يشارك الحيوانات الأخرى، بصفات الحركة والتغذي والتناسل ويمتاز عنها بمزية واحدة هي (النطق) أي العقل، ومن هنا أطلقوا عليه اسم (الحيوان الناطق) أي العاقل.

ولكن التحقيق العلمي قد أثبت أن الحيوانات لا تخلو من عقل تدرك به كثيرًا من أمور معيشتها. لذلك صار علينا أن نبحث عن مزية أخرى يمتاز بها الإنسان عن الحيوانات، وبها يسمى إنسانًا.

هذه المزية الخاصة هي (الأخلاقية) التي تتجلى (بالضمير الإنساني)، فالحيوان يعقل، وقد ترتقي فيه قوة لتعقل، كما في بعض القرود ولكنه لا يفهم معنى (الأخلاقية) ولا يمكن أن يكون له الشعور الذي نسميه (الضمير).

فأخلاقيتنا إذًا هي المزية الوحيدة التي تثبت (إنسانيتنا)، وإذا خرجنا عن هذه المزية عدنا إلى مرتبة الحيوانات، بل كان كل حيوان بميزته الخاصة خيرًا منا، لأننا فقدنا مزيتنا الخاصة، وليس لنا مزاياه الخاصة.

هكذا قال ابن مسكويه، وهكذا من بعده بعصور، جاء (دارون) يقول: "أن الضمير أو الحس الأخلاقي هو أظهر فاصل يفرق بين الإنسان والحيوان"، وجاء (كانت) يتخذ من هذا (الشعور الأخلاقي) منطلقًا لإثبات خلود الأرواح ويوم الحساب، ووجود الله الحكم العدل القدير.

هذا الضمير الأخلاقي إنما يصونه الصيانة الكاملة الدائمة الساهرة النافذة من وراء حجب الخفاء شيء واحد وهو الإيمان بوجود الله الحكم العدل القدير.

فتحقيق إنسانيتنا ضرورة اجتماعية، وإنسانيتنا لا تتحقق إلا بأخلاقيتنا، وأخلاقيتنا لا تصان إلا بالإيمان.

فالإيمان إذًا أمر ضروري لأنه يمسك أخلاقيتنا التي تثبت بها إنسانيتنا.

وأكرر القول للشباب إن الإيمان بالله هو:

أُسُّ الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضى والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس إذا وحشتها الحياة، وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه، والعروة الوثقى بين الإنسانية مثلها الكريمة.

فلا يخدعنكم أيها الشباب من يقول لكم إن مكارم الأخلاق تغنى بوازع الضمير عن الإيمان؛ لأن مكارم الأخلاق التي تواضعنا عليها للتوفيق بين غرائزنا وحاجات المجتمع، لا بد لها عند اعتلاج الشهوات في الشدائد والأزمات، أن تعتمد على الإيمان، بل أن هذا الشيء الذي نسميه ضميرًا، إنما يعتمد في سويدائه على الإيمان.

وانقياد الناس لمكارم الأخلاق، إنما يكون بزاجر من السلطان، أو وازع من القرآن، أو رادع من المجتمع فإذا كنا في نجوة من سلطان القانون والدين والمجتمع لم يبق لنا وازع إلا الضمير. ونحن في معركة الشهوات والغرائز مع الضمائر قلَّ إن نرى الضمير منتصرًا إلا عند القلة من الناس، وهذه القلة نفسها تستمسك بضمائرها عند جموح الشهوات، إلا إذا كانت تخشى الله.

ولو تركنا مكارم الأخلاق جانبًا، ونظرنا إلى حاجتنا للإيمان من حيث هو سند في الشدائد، وبلسم للمصائب وسكن للنفوس، وعزاء للقلوب وعلاج لشقاء الحياة، لوجدنا أننا عن فقد الإيمان نكون أسوأ حظًا في الحياة، وأدنى رتبة في سلم المخلوقات، من أذل البهائم، وأضعف الحشرات، وأشرس الضواري.

فالبهائم تجوع كما نجوع، ولكنها في نجوة من هم الرزق، وخوف الفقر وكرب الحاجة، وذل السؤال.. وهي تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، ولكنها في راحة من هلع المشكلة، وجزع الميتمة، وهم اليتامى المستضعفين.

وهي في أجسادها تلذذ كما نلتذ، وتألم كما نألم، ولكنها في راحة مما يأكل القلوب، ويقرح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشمل، ويخرب البيوت من المهلكات: كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والنفاق والخيانة والعقوق وكفر النعمة ونكران الجميل.

وهي تعرف بنوع من الإدراك، ما يضرها وما ينفعها، ولكنها في نجوة من اعباء التكليف، وأثقال الأوزار، ومضض الشك، وكرب الحيرة وعذاب الضمير.

وهي تمرض كما نمرض وتموت كما نموت ولكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض، وفراق الأحباب، وسكرات الموت، ومصير الموتى وراء القبور.

والضواري تسفك الدماء لتشبع بلا سرف، ولكنها لا تسفكها أنفًا ولا جنفًا ولا صلفًا ولا ترفًا ولا علوًا في الأرض ولا استكبارًا.

أما هذا الحيوان الفيلسوف الضعيف الهلوع الجزوع المطماع المحتال الفخور المترف المتكبر المتجبر السافك الدماء الذي لا يأتيه شقاء الحياة، أكثر ما يأتيه إلا من تفكيره فإنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان.

فالإيمان هو الذي يقويه، وهو الذي يعزيه، وهو الذي يسليه، وهو الذي يمنيه، وهو الذي يرضيه، وهو الذي يجعله إنسانًا يسعى إلى مثله الأعلى لتسجد له الملائكة.. ومن دون هذا الإيمان يكون هذا الإنسان المسكين أتعس الخلائق وأسوأها حظًّا، وأعظمها شقاء وأشدها بلاء وأحطها رتبة وأرذلها مصيرًا.

وسبيله إلى الإيمان هو ذلك (التفكير) الذي كان سبب شقائه. أنه عبد لتفكيره قبل أن يكون عبدًا لربه، ولا يكون عبدًا لربه حق العبودية إلا بهذا التفكير. الذي ينسج خيوط سعوده ونحوسه في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

لقد خلق الله هذا الإنسان، ورفعه وكرمه وميزه بهذه النفس العاقلة المفكرة التي علمه بها الأسماء كلها، وخلفه بها على الأرض، وصيره بها فوق الملائكة، وكتب الفلاح لمن زكاها، والخيبة لمن دساها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فكيف نزكيها؟

إننا نزكيها بالتفكير، حتى تتسامى إلى مثلها الأعلى، وتصل إلى (اليقين) من الحق والخير والجمال، فترى الله عنده.. وتجد من حلاوة الإيمان ما تدرك به سر شقائها وسعادتها، وضعفها وقوتها، وعجزها وقدرتها، وعبوديتها وحريتها.. بل سر خلقها، ووضعها على مفترق (النجدين) وتركيبها على هذه الصورة القابلة (للضدين)، التي من دونها لا يفهم معنى (العبودية) ولا يستقيم معنى (العبادة).

لذلك كان حقًّا علينا من باب الحاجة والضرورة، إن لم يكن من باب الحق والعبادة والتقوى، ومن أجل سلامة عقولنا، وسلامة قلوبنا، وسلامة ضمائرنا، وسلامة إنسانيتنا ومثلها العليا وسلامة المجتمع، أن ندعو إلى الإيمان بالله، ونيسره للعقول، ونشرح له الصدور.

0 شخص قام بالإعجاب