القرآن الكريم والحياةمقالات

أحمد عبدالرحيم السايح

القرآن الكريم كتابُ الله الخالد، الذي أُحكمت آياته ثم فُصِّلت من لدُن حكيمٍ خبير، نزل به الروح الأمين على رسول الإنسانية محمد عليه الصلاة والسلام، منجَّمًا حسب الوقائع والمناسبات، من ليلة السابع عشر من رمضان، للسنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول، حيث أوحى إليه في غار حراء، الذي كان يتحنَّث فيه، أولُ آية وهي: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).

وكان في هذا الابتداء إشعار بالدعوة الإسلامية إلى العلم، والتنويه بشأنه، وأن شعار هذا الدين العلم الذي يرفع الله به الأمم، ويعز به الجماعات.

واستمر نزول القرآن حتى التاسع من ذي الحجة، للسنة العاشرة من الهجرة، والثالثة والستين من ميلاد الرسول، حيث أوحى إليه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).

وبتمام نزول القرآن الكريم كملت شريعة الإسلام، وأتم الله على أمته نعمته، والقرآن بهذا التمام والكمال صار دستور المسلمين في حياتهم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية والروحية، ومرجع العقائد، والعبادات، والمعاملات.

أحكمه رب العزة، فأتقن إحكامه، وفصله فأحسن تفصيله، فبه من الآداب الفاضلة والأخلاق الحميدة، والتوجيهات السديدة، والقيم السامية، ما هو كفيل برقي الأمم العاملة به، المتمسكة بتعاليمه.

وهو روح الإسلام الذي يشع فيه الكينونةَ والوجود، وقلبه الذي ينبض بالحياة والحركة والدفع والتدفق، وعقله الذي تلألأت به شهب المنى، ودرت أثداء الأمل.

وهو الجامعة الإسلامية العالمية، التي ترسمت معالم الإخاء، وشعت بقواعد المساواة، وخفقت بأعلام الحق، وعلائم الكمال.

والمعنى الذي يفهم من لفظ (القرآن) كبير جدًا، لا يدانيه معنى في القوة والتأثير، وإن المؤمن الذي يتلوه لتنثال على خاطره منه دلالات وطيوف، تملأ النفس خشوعًا وروعة وجلالًا.

وفي كلمة القرآن معنى الجامعة، التي احتوت على جميع العناصر الصالحة لكل الأزمنة والأمكنة والبيئات والمجتمعات والعصور.

والقرآن الكريم: وعي، ووحي، وإشعاع، وكتاب تربية، وبرهان قاطع، وآية ساطعة، وتشريع روحي، وقانون وافٍ، وسياسة أخاذة، ونظام دولي، وإصلاح اجتماعي، ومجمع علمي، ودائرة معارف يرجع إليها أهل الفكر، ويعتمد عليها أرباب النظر.

والقرآن فوق هذا وذاك: القاعدة الروحية التي تنطلق منها الإمدادات الإلهية، والفيوضات السماوية. وإذا كان الإنسان ذلك الكائن الحي لا وجود له ولا حياة بغير الروح والقلب والعقل، فإن المسلمين لا كيان لهم ولا حياة بغير القرآن، فهو لهم الروح والعقل والقلب، وهو لهم: الضياء والشفاء والغذاء والجرس الذي لا ينتهي له مدى، ولا ينضب له معين.

تَنشده الأمة فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية، والعلائق الأسرية، المعاملات الاقتصادية، والاجتماعية، والحربية، والقوانين المدنية، والأنظمة الدولية، وبعبارة أدق وأوجز: تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة، والدين والدنيا.

نادى الناسَ بنداءاتٍ إلهية، أججت العواطف، وحركت العقول من ركدتها، وبعثت في النفوس ثورة رائعة، كان لها المدى البعيد في تحويل مجرى الإنسانية.

ولقد وعى التاريخ عن الإصلاح في القرآن ما لم يعه لأي حدث آخر في هذا الكون، سواء في معارك التهذيب النفسي، حينما وجد الناس يسودهم الهوى، ويسوسهم الجهل، فأصبحوا بهديه مثالًا يحتذى.

أو في معارك السلام يوم تدفقت سيول العرب من منابعها، وخاض جود الحق بفتوحاتهم أرجاء الدنيا. وما أصدق رسول الله إذ يقول في حديث يرويه الترمذي: "كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم".

وما أبلغ ما قاله الدكتور موريس الفرنسي في وصف القرآن: إنه بمثابة ندوة علمية للعلماء، ومعجم اللغة للغويين، ومعلم النحو لمن أراد تقويم لسانه، وتهذيب العواطف، ودائرة معارف للشرائع والقوانين([1]).

ولقد اشتمل القرآن الكريم على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية، منها حوالي سبعمائة وخمسين آية كونية وعلمية، احتوت أصول وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة، وما وراء الطبيعة، والأحياء، والنبات، والحيوان، وطبقات الأرض، والأجنة، والوراثة، والصحة، والصحة النفسية، والوقائية، والتعدين، والصناعة، والتجارة، والمال، والاقتصاد، إلخ. واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات، وعلاقات الأمم والشعوب في السلم والحرب، وفي سياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، وكل ما يتصل ببناء المجتمع. وفي رسم شخصية المسلم الكامل؛ خلقًا، وأدبًا، وعلمًا، وفيما يجب أن يحتذيه من المثل العليا، وما يتحلى به من مكارم الأخلاق.

وهذا كله بخلاف العبادات والعقائد، والتكاليف، وبخلاف القصص، وما احتواه من مواعظ، وأمثال، وغير ذلك من شتى أمور الدين والدنيا، مما كان محلًا للدراسة، والاستنتاج، والتخريج، والتأصيل، والبحث، والتنقيب. وكان أساسًا لعلوم الفقه، والتفسير، والحديث، والأصول، والأخلاق، والاجتماع، والبلاغة، والأدب، وغيرها، سواء كانت عقلية أم نقلية.

وكانت معانيه دائمًا كالماء الصافي الزلال في بلور الإناء، ومهما تشكل الماء بلون الإناء بحسب الزمان والمكان فهو نفس الماء الذي لا يتغير لونه، ولا ينضب معينه، ولا يتسنه طعمه، ويظل هو نفس القرآن الذي لا تبلى مع الزمان جِدَّته، ولا تنقضي عجائبه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه من العمق والاتساع، ومن العموم والشمول، بما يقبل تفهم البشر له، أيًّا كان مبلغهم من العلم، وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر، ويتجاوب في يسر مع أهل البداوة؛ لأنه لا يلتوي على الأفهام، ويبهر في عمق أهل المدينة، الذين صعدوا في سلم الرقي، وبرعوا في فنون العلم والمعرفة؛ لأنه يزخر كما يزخر البحر، في قاعه الدرر واللآلئ لمن استطاع الغوص إليها في الأعماق([2]).

ويضيق المقام عن الإفاضة في هذه المجالات الواسعة العميقة، فلا مندوحة من الاجتزاء والاكتفاء وإيراد بعض الأصول والحقائق، وإلى اللقاء.

 


[1]) انظر كتاب التربية في كتاب الله، ص 6، للشيخ محمود خالد، مطبعة الاعتصام - القاهرة 1388هـ.

[2]) راجع المحاضرات العامة للأزهر، ص 20، سنة 1378هـ - مطبعة الأزهر.

0 شخص قام بالإعجاب