قال الله تعالى، وصدق الله العظيم: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
إن الحاجة إلى الإصلاح أصبحت ضرورة لا مفر منها ولا مناص، وعلى الصفوة أن تحقق اليوم وفي الغد، أكثر مما يجعلنا نفاخر فقط بما حققناه في أمسنا القريب والبعيد وإذا كنا قد حاولنا أن نرتفع لمستوى ماضينا العظيم فإننا في الوقت ذاته ندرك أن هذا الماضي لا قيمة له ولا جدوى فيه – إذا كانت أمجاده تاريخًا يروى، يشب خيالنا إليه، وتقصر أعمالنا عن الوصول إلى مستواه.
إن سلطة القانون، أو الدعوة الأخلاقية، أو النهضة العلمية، أو الأنظمة الاقتصادية، أو المذاهب الفلسفية، كل أولئك وغيره مما يستولده الفكر البشري في أدق صوره، وأعمق مغازيه، وأوفى مفاهيمه، لن يكون أساسًا لإصلاح ثابت الدعائم، دائم الأثر، فياض الموجات، يأخذ بيد المجتمعات والشعوب لتحقيق حياة أفضل، وغد مشرق سعيد.
إن القانون يتناول من أمور الناس ما ظهر منها دون ما بطن، ومجاله في الثواب محدود، ونظرته إلى ذوي الفضائل قاصرة، وكل عيون القانون مفتوحة ومركزة لرصد المنحرفين عن الجادة، أو لتنظيم الحياة اليومية العادية في صورها المادية الظاهرة.
هذا وربما نجحت الدعوة إلى مكارم الأخلاق في الأخذ بيد المجتمع نحو حياة تسودها بعض الفضائل والمثل والقيم الرفيعة، وقد تنجح هذه الدعوة في بث ألوان من صور المروءة في النفوس، فيقل الكذب، ويندر الغش ويكثر الإيثار، ويشيع حب الجار، ولكن هل بهذا وحده تتحقق الحياة المثلى للفرد والمجتمع بصورة عملية؟ أو هل يظل الفرد أمينًا لمبادئه الأخلاقية السامية، لو رأى عمليًّا عدم جدواها في مجتمع يأكل قويه ضعيفه؟ ثم ما هذه المثل الأخلاقية؟ وما مقاييسها؟ وهل هي ثابتة لا تتغير من زمن لآخر، أو من مجتمع إلى مجتمع؟ ألم تكن موائد الميسر ومعاقرة الخمر من مفاخر بعض المجتمعات، وهي اليوم سبة اجتماعية ورذيلة تتابع بالزجر والعقاب؟
إن كثيرًا من الفضائل الخلقية هنا رذائل خلقية هناك، فكيف نطمئن في إصلاح مجتمعنا بطريقة ثابتة دائمة إلى هذه القواعد الخلقية وحدها، وهي على ما رأينا من قصور واختلاف؟
إنه مما لا شك فيه أن الجانب المادي شطر من وجودنا، والجانب الروحي شطر أصيل فينا، ولا بد للمصلح أن يراعي في إصلاحه إلى جوانب المظهر المادي الجوانب الروحية، حتى تهدأ أرواح مضطربة، وتسعد نفوس حائرة، وتطمئن قلوب قلقة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا عن طريق الدين الصحيح، والإيمان الراسخ، والعقيدة القوية (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) نعم. لا بد من الاعتماد في كل إصلاح على سلطة الدين المستقرة في النفوس، وقوة العقيدة الفطرية في القلوب، حتى يثمر الإصلاح، ويبقى أثره على مر الحقب، وتطاول القرون.
التدين أمر فطري
ولا نحاول ولن نحاول بهذا أن نعرض على نفوس الناس ما يعارض فطرتهم، أو يخالف طبائعهم، لأن الدين فطرة الله التي فطر الناس عليها. (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
الدين ضرورة اجتماعية
ومنذ وجدت الجماعات البشرية اتجهت في سموها إلى هذه الروح الدينية، وكل مجتمع كان ينحو في فهم تدينه على حسب ما يهديه إليه عقله، أو ترشده إليه بيئته، أو يوحي به إليه مفكروه، أو ينذره به رسله ولكنها جميعًا كانت تلتقي عند قدر واحد هو الدين في ذاته، والعبادة في مبادئها.
وبغير الدين تصبح الجماعات البشرية إلى الحيوانية أقرب، وتصير حياتنا في هذه الأرض مبتورة الصلاة، محدودة الهدف، مبهمة القيمة، ولهذا رأينا كل المجتمعات – حتى البدائي منها – لا تستطيع أن تقيم حياتها على غير دين.
وقد رأينا ابن المقفع يوم أن أزمع اعتناق الإسلام يكره أن يبيت ليلة واحدة على غير دين، فقد وعد أن يسلم من الغد، ثم أدى بعض مراسيم العبادة المجوسية في المساء، ولما سئل كيف تفعل ذلك وأنت على وعد بالإسلام من الغد قال: "كرهت أن أبيت على غير دين".
بل إن الملاحدة أنفسهم يفزعون إلى الدين عندما تنزل بهم النوازل، وتصيبهم الأحداث، أو تتقدم بهم السن (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
وكثيرًا ما ردد الاجتماعيون ضرورة الدين كظاهرة اجتماعية، وكثير ما سمعنا منهم "لو لم يكن الله موجودًا لوجب أن يوجد" وعلى هذا سارت كل المجتمعات حتى الوثني منها، وما الأصنام إلا ظواهر لمحاولة البشر خلق الديانات، وإطلاق أثرها في النفوس، حتى تكون هديًا للمجتمع، ودافعًا له على السمو في مضمار الحياة.
الدين القيم
وقد أغنانا الله جل جلاله بدين قويم، يجمع بين فلاح الدنيا وصلاح الآخرة، ويأخذ من الفرد فتزدهر الجماعة، وينظم الأسرة فترقى الدولة، ويرسم النظم للمجتمع المتكامل المتعاون القوي السليم.
فهل نترك أصوله لنلتمس وسائل الإصلاح من غيره، وهو أس كل صلاح ودعامة كل خير؟ وقد حقق بالفعل رسالة الخير والصلاح والقوة لمجتمع لم تتهيأ له أسباب النهضة إلا بهذا الدين (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
إن الإسلام هو الوسيلة الوحيدة لإنقاذ البلاد الإسلامية وما ران عليها من آثار الماضي البغيض، لأنه يعالج الظاهر والباطن، وينهض بالمادة والروح، ويسمو بالحياة الدنيا، ويطهر النفس، وينظم المعاملات، ويسن الشرائع، ويقر العقيدة في سماحة ويسر، يسعد بها الفرد، وتستقر الجماعة. فلا يصدر المسلم في كل حركاته وسكناته إلا متجهًا إلى الله، فإذا عمل عملًا اتجه فيه إلى الله، فلا رقيب عليه إلا وازعه الديني، ولا يخشى في تصرفاته إلا فاطر الأرض والسماوات، المطلع على سرائر القلوب الملم بخلجات النفوس، مستحضرًا قول الرسول الكريم في الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" واثقًا بأن الله مطلع على دخائل النفوس، ملم بهواجس القلوب (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وبهذا يصبح مشتغلًا بالله مقبلًا عليه في يقظته ومنامه، في سكونه وحركاته، في خلوته واجتماعه، فلا يراعي إلا الله، ولا يخشى في الحق غير الله، ولا يطيع مخلوقًا في معصية الخالق، فإذا ما دعا داعي التضحية بالنفس والمال أسرع ملبيًا النداء، هاتفًا من أعماق قلبه في قوة وإيمان (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى).
وبهذا كان المسلمون مجتمعًا متماسكًا قويًا، يلتف تحت راية واحدة هي راية الإسلام، ويعتز بعقيدة واحدة هي عقيدة الإسلام، ويجاهد في سبيل هدف واحد هو هدف إعزاز الإسلام، حتى غدا المسلمون جميعًا (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وصاروا قومًا يحبهم الله ويحبونه (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
ترى المسلم منهم في رمضان قد برح به الجوع، وأرمضه العطش، ولا رقيب عليه ولا حسيب، ولو شاء لسد جوعه، وبل غلته، ولكن ضميره الديني يبقى واقفًا له بالمرصاد، مذكرًا إياه بربه منبهًا إياه إلى دينه، فيمسك عن الطعام، والشراب. وهكذا يتولى الدين البواطن والسرائر، كما يتولى المظاهر والظواهر، ويعالج الأرواح كما يعالج الأبدان، ويعني بشؤون الدنيا ما يعنى بشؤون الآخرة، ويمنع عن الإنسان الضرر، كما يجلب إليه النفع.
وهو بهذا لا يدع وسيلة للشر إلا دفعها، ولا بابًا للخير إلا فتحه على مصراعيه، فهو وحده المنهج القويم (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) وبه تتخلص الجماعة من سمات التخلف التي لا يصل إليها القانون وحده، ولا تجدي فيها التعاليم الخلقية وحدها، بل لا يرسم علاجها الدائم الناجع إلا الدين وتعاليمه، والعقيدة وسلطانها.
فعلى أساس الدين وحده نستطيع أن نصل ماضينا الزاهر بمستقبلنا الباسم، ونطهر نفوسنا من الخوف والضعف، والأثرة والحقد، وسوء الظن بأنفسنا وبالناس، ونتجنب الغرور السلبي الذي يحملنا على المباهاة بغير عمل، والتعصب الأعمى الذي يحملنا على الكفر بكل ما يخالفنا، ولو كان صوابًا، ويجعلنا نتتبع أخطاء غيرنا، دون أن نرتفع بأنفسنا عن مستواها.
إن عصورًا مظلمة أفسدت نفوسنا، وتركت فيها كثيرًا من الرذائل، تركت فيها الخوف من حمل التبعات، والاستهتار بها، تركت فيها الخوف من حمل التبعات، والاستهتار بها، تركت فيها الخوف من القانون والاحتيال على التخلص منه، دون شجاعة لطلب تغييره إن كان معيبًا أو به قصور، تركت في نفوسنا كما يقول أحد رواد المصلحين: "وحدانية وثنية تحمل كل واحد منا على الإيمان بنفسه وسوء الظن بغيره، والانطواء في علاقاتنا بالناس على كثير من الخوف والحذر، ومن الرغبة في الكيد، ومن محاولة الاستعلاء والتسلط، ومن الحرص على انتهاز الفرص".
وليس من سبيل افعل – في إزالة كل ذلك من الدين، فمن الضروري – والحالة هذه – أن نتجه اتجاهًا صادقًا إلى الله نترسم هديه، متمثلًا في دينه الحنيف، نلتمس منه العون في إعادة تنظيم حياتنا، بما يكفل لنا أسرع طريق إلى الإصلاح، وأضمن وسيلة وأثبتها للوصول إلى ما ننشده للأمة الإسلامية.
والإسلام آخر كلمة أنزلها الله من السماء ورسوله خاتم الرسل والأنبياء ودعوته مكملة للديانات السابقة، شارحة لها ومهيمنة عليها (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) فالرسول صلوات الله عليه ليس بدعا من الرسل، ولا شريعته بدعًا من الديانات (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) وإذا كانت بعض الديانات قد اقتصرت بحكم التطور على جانب دون جانب، أو تناولت – لظروف خاصة – بعض شؤون الحياة دون البعض، فإن الإسلام وهو آخر الديانات جميعًا تناول شؤون الحياتين جميعًا، وأعد اتباعه للدنيا كما أعدهم للآخرة، وجمع بين العقيدة والإيمان، كما جمع بين العلم والعمل (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وقد أجمع كبار علماء القانون – حتى من غير المسلمين في جميع بقاع العالم – على أن الإسلام مصدر هام من مصادر التشريع، وهو بهذا كفيل باستئناف نهضة قوية صالحة تجدد العهد بثورته الإصلاحية منذ ثلاثة عشر قرنًا، ننهج نهجها، ونحذو حذوها، ونهتدي بهديها إلى الصراط المستقيم (صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ).
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.