الدعوة إلى الله والدعاةمقالات

محمد محمد خليفة

كانت الدعوة إلى الله أول إشراقة من نور الحق، انفرج عنها فم محمد صلى الله عليه وسلم، في بلد الوثنية، لتصل الناس برب الناس، ولتبدد ما ران على النفوس من الأرجاس، لتبعدها من الزلفى إلى تلك الآلهة التي صنعتها يد الباطل، ونحتتها حماقات البشرية معبودات تساق لها القرابين، وتخر لديها الجباه.

خلق الله صاحب الدعوة، فجعل من حياته قبل بعثته دروسًا له تؤهله لخطر تلك الدعوة، فعلمه يتمه الرحمة، وعلمه فقد الكفيل والعائل العمل والسعي، وعلمه فقد الأمومة الحانية الصبر وقوة الاحتمال، وعلمته الوحدة التفكير الذي نما معه، وسما عن محيط البشرية فارتقى به إلى التكفير في صانع البشرية، وعلمه رعي الغنم رعاية الرعية، وكيف يسوسها، وبوجهها إلى الخير، ويجنبها مراتع الهلكة، ويذود عنها ضراوة النفوس المذبذبة، وعلمته التجارة حب الكسب الطيب والصدق والأمانة.

وقد تضافرت كل هذه الدروس وغيرها، فخلقت فيه صلوات الله وسلامه عليه نفسًا لا كالنفوس الطينية التي ارتبطت حياتها بالأرض، وعاشت مستعبدة لمن عليها وما عليها، وما يخرج منها، ولكنها النفس السماوية المتألقة بصفاتها وفضائلها. النفس التي أعدتها قدرة الله لتحمل إلى الوجود أعظم دعوة عرفها الوجود، فكانت فيها قوة الأشعة الشمسية تمتد من عالمها السامي إلى البصائر، فتنفد إليها لتبدد ظلامها وتنشر فيها نور الحق، وتشرق في دنيا الناس (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ).

يا أيها المدثر

وحينما شاء الله أن يبعثه مست رسالته قلب المدثر تأمره أن ينذر العاكفين على الأصنام والمتخبطين في الخطايا بأس الله وعذابه، وتأمره أن يكبر ربه الذي خلق كل شيء، وأن يطهر روحه من كل ما يعلق بها من دنيا البشر، فانتفضت روحه حين مسها تيار الحق، ثم قرت له، فسكن فيها، وامتزج بها، وخلق فيها طاقات من الإيمان به تتحرك قواها في المجتمع، فتولد حرارتها الإيمان العامل في كل نفس بشرية مستها. وكما خلق فيها، تلك الطاقات المؤمنة خلق فيها كذلك حب البذل والتضحية والاستهانة بالدنيا وبكل أسلحة الشر وما تعبئ وحشية الجبارين للنيل من إيمان المعتصم بالله.

فكان الداعي الأول إلى الله قوة تعمل لتصنع خير أمة، كمالًا من الفضائل يقف على النفوس فيرسل فيها ينابيع الحق تطهرها من خطايا الجاهلية، ويربيها أحسن ما تكون التربية ويهيؤها للقيادة الروحية وبعدها لحياة حربية لأعداء الكمال الإنساني، ويخلق في كل نفس ما يجعل منها أمة تعمل حيثما كانت في كل مجال.

وكان صلوات الله وسلامه عليه الإمام الذي ترى فيه كل فضيلة مثلها الحي، ويرى فيه كل مسلم الحكمة التي تنساب روحها في المجتمع كما ينساب الغدير في الصحراء الصادية فيرويها ويحولها إلى جنات وارفة الظلال يانعة الثمار.

مدرسة النبوة

ويرى فيه كل مسلم كذلك المعلم الذي وهب حياته لله وللدعوة إلى الله، فكانت دار بني الأرقم في مكة أول معهد للدعوة تتلمذ فيه عشرات من السابقين الأولين، وكان مسجده في المدينة المعهد الثاني أو الجامعة التي تخرج فيها الألوف من اليثربيين ومن الوافدين من آفاق الجزيرة، لينبعثوا بعد ذلك في العالم انبعاث الربيع ينشر الجمال الروحي، ويحول صخب الدنيا إلى الدعة والوداعة اللتين تحب أن تعيش فيهما الحياة.

وكانت دعوتهم إلى الله قوة تستمد قدرتها على العمل من الله، وتصنع من الإيمان به سلاحًا تعجز عن مجابهته أسلحة الباطل، ولن يجابه عتاد الباطل الأرضي سلاح الحق السماوي.

وتلَقى الدعوة عنهم أقوام ومن بعدهم أقوام عاشوا جميعًا مع الزمن، يبعثون فيه الحياة فكانوا في أجيالهم رواد الخير، وقواد النفوس إلى الحق، ومرشدي التائهين في خضم المادية إلى مرافئ السعادة الحقة – السعادة الروحية – في ظلال الخير الخالص، ثم وارى الزمن هؤلاء الدعاة وأولئك (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ).. (نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ).. فأضاعوا من أيديهم كل سلطان، وعاشت الدعوة في أفواههم الفاظًا لا روح فيها، وهم وأن أهلتهم حياتهم ودراستهم للدعوة إلا أنهم ربما كرهوا التضحية بالجهد والعافية والمال في سبيل ما قد تكسبه الدعوة.

الإيمان والرجال

فما أحوج الإسلام اليوم، وما أحوج دعوته إلى دعاة مخلصين لله يسلمون وجوههم إليه، ويستمسكون أبدًا بحبه، ثم إلى كرماء يبذلون، ويثقفون كلما دعاهم داعي البذل في سبيل الله.

ما أحوج الإسلام إلى داعية يسيح في الأرض لا يتقيد بإقليمية يحتبس فيها نشاطه بل يؤمن بوجوب الدعوة عليه للناس كافة، فليس للدعوة الإسلامية وطن محدود تعيش فيه، وتعمل داخل حدوده، وإنما عليه أن يضرب في الأرض حاملًا مشعل دعوته لا ترهبه الأدغال ولا تثنيه ظلمة الكهوف أو شواهق الجبال، ويجب أن يعيش معه إيمانه برسالته فوق ظهر البحر إلى المجال الذي يراه خصيبًا لدعوته، وبين أحراش إفريقيا وأدغالها وصحاريها وبين سهول آسيا وجبالها قبل قراها ومدنها، كما عاش ذلك الإيمان مع أسلافه الدعاة وهم يجتازون المخاطر في الهند والصين وفيما وراء الهند والصين، وأن الله يحتسب له كل خطوة خطاها، ويأجره على كل عقبة تخطاها، ويثيبه على كل مشقة احتملها، وصبر عليها وكل كلمة قالها، وعمل أداه، وهو مصيخ أبدًا إلى نداء ربه (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) وهو حيث يكشف دعوة الحق، ويصور سبيلها للخلق ويقف بأرواحهم على مبادئ الإسلام وآدابه وسماحته، ينادي فيهم (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ).

المال..

ثم ما أحوج الدعوة إلى مال يكفل للدعاة سبل العيش والأسفار، ويشق للدعوة الطريق بين الإرساليات التي ألبستها المسيحية أثواب الدين والعلم، وبعثتها توطد أقدام الاستعمار، وتمهد له حيثما كانت أسباب الحياة.

وما أحوج الدعوة إلى مال يكفل للدعاة سبل العيش والأسفار، ويشق للدعوة الطريق بين الإرساليات التي ألبستها المسيحية أثواب الدين والعلم، وبعثتها توطد أقدام الاستعمار، وتمهد له حيثما كانت أسباب الحياة.

وما أحوج الدعوة إلى مال كذلك تشيد به المساجد والمعاهد حيثما لقيت الدعوة الآذان والقلوب.

وإن خزائن أثرياء المسلمين في العالم وخزائن الدول الإسلامية لن تعجز عن إمداد الدعوة وإمداد منظماتها – التي ينبغي أن تكون – بالمال الذي يفتح للدعوة الآفاق المقفلة وما أكثر الثروات التي تئن من ثقلها خزائن المسلمين في آسيا وإفريقيا.

والدعوة إلى الله خير ما ينفق في سبيله المال وهذه النفقات هي الصالحات الباقيات. ألا ليت هذه الصيحات تطرق مسامع المسلمين، فتتجاوب معها القلوب، وتنتفض المشاعر، وتهتز الأريحيات للبذل في سبيل الله.

وليتها تجمع قلوب العاملين للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وتحفزهم إلى العمل لا إلى الكتابة والخطابة في عصر انطلقت فيه ألوف المبشرين بالمسيحية تعمل لنشرها في البلاد المتخلفة وجمع القلوب من حولها. ونحن أولى من هؤلاء بالدعوة إلى دين الله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ).

وإن الدعوة إلى الله ليست وقفًا على العلماء وحدهم والإنفاق عليها ليس وقفًا على الأثرياء وحدهم بل على كل مسلم ومسلمة تجب الدعوة ويجب الإنفاق عليها.

ولقد حمل رسالتها الداعي الأول وحده وبعد ثلاث وعشرين سنة من بدء دعوته تجاوز المؤمنون بها مئات الألوف، فما لنا ونحن الألوف من الدعاة تهز المنابر، ونكاد نشق الحناجر، فلا يستجاب لنا ولا نضيف إلى عدد المسلمين في قرن بل في قرون قدر ما كسبه الرسول في قرابة ربع قرن، إن الدعوة إلى الله التي دعا بها محمد صلى الله عليه وسلم هي الدعوة التي ننادي بها ولكن أين إيماننا من إيمانه؟ وأين إخلاصنا لها من إخلاصه؟ وأين تضحيتنا وتفانينا من تضحياته وتفانيه؟ وأين المنفقون منا من إنفاق أصحابه في سبيلها؟

إننا يوم نؤمن ونخلص ونضحي وننفق كإيمان محمد صلى الله عليه وسلم وإخلاصه وتضحيته وإنفاقه هو وصحابته ويوم ننتصر على المادية والانحلالية واللادينية سنسود الدنيا كما سادها أسلافنا الأولون، ونخضع هامات الجبارين كما أخضعوها، ونقود العالم يومئذ إلى ظلال الحق والخير لا تفرقه بين الجنسيات ولا الألوان بل تلتقي الإنسانية كلها لتعيش تحت ألوية الأخوة والمحبة والرحمة والسلام، (وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ).

0 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً