نظرات في دعوة المبشرين (1)مقالات

ممدوح فخري

تميز عنصر النهضة في أوروبا بالنسبة للمسيحية بظاهرتين متناقضتين، ظاهرة الانكماش في الداخل وظاهرة الانطلاق في الخارج وذلك حينما انجلى الصراع المرير بين الدين والعلم، أو بتعبير أدق بين رجال الدين وتيار التطور العلمي الهائل الذي بدأ في أوروبا، انجلى ذلك الصراع بهزيمة مروعة لرجال الدين ووضع بذلك حد لذلك الطغيان الذي مارسه أولئك الرجال باسم الدين عبر القرون، وكانوا سدًّا منيعًا أمام كل حركة فكرية حرة تحاول إخراج الناس من حكم هذا الكابوس الرهيب الذي يفرض سلطانه باسم الله، ويعتبر كل خروج عليه خروجًا على الله، ويبطش البطشة الكبرى مستهدفًا الرؤوس المفكرة والعقول الكبيرة وروَّاد العلم والمعرفة الذين يهددونه في وجوده وكيانه.

ولكن سنن الله الكونية لا تغالب والظلم لا يدوم ولا يستطيع أحد أن يحول بين العقل وبين استخدام حقه الطبيعي في التفكير والانطلاق، ولا يستطيع الطغيان أن يكون حاجزًا أبديًّا أمام العلم والمعرفة والحرية لذلك سرعان ما انهارت السدود (المقدسة) أمام زحف التيار العلمي والتقدم الفكري وأزيحت الكنيسة ورجالها كعقبة رئيسية في طريق التطور وفقدوا بذلك كل سلطان لهم في المجتمع فأقصوا عن مراكز الحكم وطردوا من المدارس وانتزعت منهم أداة التوجيه والتربية وانزوت المسيحية في الكنائس والأديرة وسجنت هناك ولم يعد يسمح لها بأن تدس بأنفها باسم رجالها في شؤون الناس.

أمام هذا الانهزام بحث رجال الدين المسيحي عن ميدان آخر يمارسون فيه نشاطهم ويعرضون فيه بضاعتهم وقد نبذتهم أرضهم ورفضهم أهلهم وأبناؤهم.

وكان المجال الطبيعي لهم هو البلاد المختلفة دينيًّا وحضاريًّا وكان العالم الإسلامي في مقدمة هذه البلاد المختلفة لذلك كان الهدف الرئيسي للمبشرين الذين انطلقوا في الأرض يبشرون لا بالديانة المسيحية ولكن بالاستعمار الجديد الذي كانوا يمثلون طلائعه في كل بلد، وكانت مراكزهم ومدارسهم القواعد الفكرية التي مهدت للاستعمار وروجت للغزو الفكري والحضاري وأوجدت القابلية للاحتلال وقدمت المبررات والمسوغات لهذا الغزو باسم العلم والمدينة وعلى أنه الطريق الوحيد للتقدم والرقي واللحاق بركب الحضارة، وقد خدمت حركة التبشير هذه جهتين مختلفتين:

الجهة الأولى: هم المبشرون الذين وجدوا مصدرًا جديد للارتزاق بعد أن سدت في وجوههم أبواب الرزق في بلادهم.

الجهة الثانية: هي الدول الاستعمارية (اللادينية) التي تولت طرد هؤلاء من بلادهم ثم أمدتهم بعد ذلك بالمال الوفير لا إيمانًا بدعوتهم ولكن لأن المبشرين كانوا ولم يزالوا طلائع الغزو الاستعماري والممهدين له بغزو فكري مسبق.

وعلى هذا الأساس كان هذا التلاقي الغريب بين الأضداد في حركة التبشير.

ولقد حمل المبشرون أوزارهم وجاؤوا يدعون إليها في بلاد المسلمين، جاؤوا ببضاعتهم المزجاة وتجارتهم البائرة التي لم تجد لها سوقًا رائجة بين أبناء جلدتهم جاؤوا إلى بلاد المسلمين آملين أن يجدوا سوقًا نافقة لبضاعة أعرض عنها أهلها وذووها جاؤوا ليجدوا أمة غنية في الأخلاق غنية في التراث العلمي العريق، ذات ماض مجيد وحضارة مشرقو تتلألأ في بطون التاريخ، ووجدوا مع ذلك كله تخلفًا مريعًا في ميدان العلم والأخذ بأسباب الحياة الجديدة ومسايرة ركب الحضارة، مع جهل فاضح بالدين الذين ينتمون إليه وبالتراث الذي ينسب إليهم.

أضف إلى ذلك فقرًا مدقعًا يعم أمة تتحكم في مصادر الثروة في العالم تقريب. ومن هذه النوافذ الكبرى والفجوات الواسعة في حياة المسلمين تسرب المبشرون إلى بلادهم ثم إلى قلوبهم وأفكارهم وكان ذلك الانقلاب الهائل في حياة المسلمين على أيدي المثقفين من أبنائهم الذين ربوا في محاضن التبشير وغذوا بألبانهم الفاسدة المصبوغة بصبغة العلم والمعرفة، ذلك الانقلاب الذي يتجسد في جماهير المثقفين المرتدين من أبناء المسلمين المتنكرين لدينهم ولتاريخهم ولتراثهم الفكري والعلمي والقابلين أن يتنازلوا عن مكانتهم في التاريخ ومركزهم في العالم وان يسيروا في ذنب القافلة يقلدون غيرهم ويحكون أقوالهم واعمالهم بعد أن كانوا ممسكين بقيادة الإنسانية يوجهونها وجهة الخير بإذن الله.

ولكن المبشرين لم يحملوا إلى بلاد المسلمين شيئًا يفتقرون إليه ولا يجدونه عندهم فما هو المعنى الجديد الذي جاء به المبشرون ولم يجدوا لدى المسلمين ما هو أفضل منه؟

ما هو المثل الأعلى الذي آتو به ولم يجدوا عند المسلمين أكرم منه وأمثل؟ ماهي القيم الدينية والخلقية التي أتوا بها ووجدوا المسلمين أفقر وأحوج إليها منهم، أجل لقد أتوا بالوسائل العلمية الجديدة وأتو بمبتكرات حديثة في الميدان الخالص، وببعض أنواع العلوم العصرية التي كانوا يستخدمونها في الحقيقة كستار وحجاب يستر غرضهم الأساسي وهدفهم الحقيقي وهو التمكين لأنفسهم ولأفكارهم في بلاد المسلمين وذلك بمحاربة الإسلام في نفوس أبنائه بأساليبهم الملتوية الماكرة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض الحقائق البارزة في دعوة المبشرين وإلقاء الأضواء العابرة على ما فيها من عيوب بادية تصدم العقل السليم والفطرة النظيفة للمسلمين عقيدتهم وشريعتهم ومنهجهم الكامل في الحياة ونظرتهم المتكاملة في الكون والحياة والإنسان وكل ذلك منبثق من كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام فما هي عقيدة المبشرين وما هي شريعتهم وما هو منهجهم الكامل وما هو كتابهم وما هو تاريخهم؟

وأما عقيدتهم: ففيها الطامات الكبرى وأولى هذه الطامات عقيدة التثليث : تلك العقيدة المستعصية على العقول، وذلك اللغز المعقد الذي عجز عن حله أساطين المسيحية عبر القرون لأن كون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد وكون كل واحد من الثلاثة هو عين الآخرين شيء تأباه مسلمات العقول وشيء يصطدم مع البديهيات بل هو مما يستحيل فهمه على الإنسان ولهذا تشبعت آراء النصارى في تفسيره فجمهورهم يقولون هذه عقيدة وردت هكذا في الكتاب المقدس، فينبغي قبولها كما هي لأنها ثبتت بالنص، وبعضهم يقول: هذه الأقانيم الثلاثة هي كالصفات للموجود الواحد ومن هؤلاء الفيلسوف الألماني الشهير كانت حيث يقول: (إن الأب والابن وروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت وهي القدرة والمحبة والحكمة أو على ثلاثة فواعل عليا وهي الخلق والحفظ والضبط).

وكل كلام في هذا الثالوث عبث وذلك لأن العقول لم تعط القدرة على فهم المستحيلات، هذه هي العقيدة التي يريد المبشرون من المسلمين أن يقبلوها ويتخلوا في سبيلها عن عقيدتهم الواضحة التي تغزو القلوب والأرواح ببساطتها وملاءمتها للفطر السليمة والعقول المستقيمة إله واحد متصف بكل كمال منزه عن كل نقص {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، أرسل الرسل وأنزل الكتب وكلف الناس بتعاليم وتكاليف هي في مقدورهم وجعل لهم يومًا لا ريب فيه يحاسب فيه كل إنسان على ما قدم بالعدل والقسطاس المستقيم. هذه هي العقيدة التي تجتذب إليها القلوب اجتذابًا والتي يريد المبشرون ان يتخلى عنها المسلمون ليؤمنوا بدلًا منها بعقيدة لا تجد لها مكانًا أصلًا لا في العقل ولا في القلب مع العلم بأن عقيدة الثالوث عقيدة وثنية معروفة في التاريخ عند المصريين والهنود وغيرهم.

ومن عقائدهم أيضًا: الصلب والفداء ومعنى هذه العقيدة باختصار شديد أن الناس جميعًا يولدون عصاة آثمين وذلك لأنهم يرثون معصية أبيهم آدم وقد جاء المسيح وهو الإله وابن الإله ليصلب ويفتدي خطايا أتباعه الذين يولدون وهم موصومون بها.

والإسلام يحل هذه المشكلة ببساطة متناهية فيقول القرآن الكريم {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}، وعند هذا انتهت هذه القصة التي جعلها النصارى معضلة مبنية على أساس التعارض بين عدل الله ورحمته وبين عدل الله الذي يصر على معاقبة آدم العاصي ورحمته التي تصر على مغفرة ذنبه، ثم لا يكون المخرج من هذا النزاع إلا بالفداء وصلب المسيح الإله وابن الإله، وكأن التوبة لم تخطر لهم على بال.

وعلى هذا فالإنسان في ظل الإسلام يولد نظيفًا بريئًا وعلى الفطرة ولا يتحمل آثام غيره التي لم يتسبب فيها وهو يتحمل تبعة التكليف ويحاسب على ما كلف به فقط.

ومن عقائدهم: عصمة الكنيسة وعلى رأسها البابا في فهم الكتاب المقدس وفيما يجتمع عليه الرأي وهذا في الحقيقة إلزام بالخطأ من إنسان يشهد العقل والحس بعدم عصمته، وجعل الكنيسة مصدرًا من مصادر التشريع، وهذا لا يعدو عبادة الرأي والعقل والهوى، وفرق بين عصمة الكنيسة وإجماع المجتهدين من أئمة الإسلام وذلك لأن إجماع المجتهدين لا يكون إلا على دليل ومستند من كتاب أو سنة.

ومن عقائدهم: توسط رجال الدين بين الله وعباده وأنهم يمنحون البركة والمغفرة بإذنه ويقسمون رحمة الله بين خلقة فيمنعونها عمن يشاؤون ويعطونها لمن يشاؤون.

وقد استغل رجال الدين هذه المكانة أشنع استغلال وأصبحوا يتصرفون بجنة الله وهم في الأرض وكأنهم يمارسون سلطة الله، وحادثة بيع صكوك الغفران في أوروبا كلها أمر شائع في التاريخ، حيث طبع أحد الباباوات بطاقات بيع بموجبها مساحات من الجنة وذلك لقاء مبلغ من المال. وكراسي الاعتراف تشهد كل حين اعترافات المذنبين أمام رجال الدين بجميع الذنوب التي اقترفوها وذلك ليغفرها هؤلاء أو ليتوسطوا لمغفرتها، وقد حرر الإسلام الإنسان من هذه الوساطة وفتح أمامه أبواب السماء وأطلقه من هذه الوصاية وقد أونس منه الرشد وربطه مباشرة بربه يتصل به متى شاء وأين شاء {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

أضف إلى ما سبق تقييد أماكن العبادة في الكنائس فقط مع ما في هذا من الحجر على عباد الله وتضييق الأرض الواسعة، مع عبادة مريم عليها السلام عند بعضهم وعبادة القديسين الذين لا يعلم عددهم إلا الله، وعبادة هؤلاء غالبًا ما تكون بالتوسل بهم والاستعانة وتعظيم صورهم التي قلما تخلوا منها كنيسة. ونحن نعلم أن الفرق المسيحية ليست مجمعة على جميع ما ذكرنا، ولكن الفرقة التي لا توافق على شيء مما ذكرناه، فإنها تقترف شيئًا آخر هو أعظم بكثير مما استنكرته.

هذه لمحات عن عقائد المبشرين ولم نقصد الاستقصاء وفيما ذكر عبرة لمعتبر. وأما شريعة هؤلاء فلا وجود لها في الحقيقة والواقع، وذلك لأن الإنجيل خالٍ عن كل تشريع وهو مجموعة مواعظ وإرشادات أخلاقية وهو العهد الجديد وأما العهد القديم وهو التوراة ففيها شريعة ورغم أنها شريعة محدودة وشريعة شعب خاص وتفرق بين اليهودي وغيره في المعاملة ومع ذلك فإن المنسوبين إلى المسيح عليه السلام كتلاميذ فقد نسخوا شيئًا كثيرًا منها وفي بعض الروايات نسخوا جميعها وذلك لما منحوه لأنفسهم من حق التشريع وهو نقلهم عن المسيح عليه السلام أنه قال لهم قبل وفاته بزعمهم: (ما حللتموه في الأرض محلول في السماء وما ربطتموه في الأرض مربوط في السماء).

وقد استعملوا هذا الحق في نسخ ما شاؤوا من شريعة التوراة رغم إقرار المسيح لها: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ومن قول المسيح المروي في الإنجيل: ما جئت لأنقض الناموس (وهو التوراة) ولكن لأتمم.

ونظرًا لهذا الافتقار إلى الشريعة التي تنظم سائر أحوال الأمة كانت الأمم المسيحية عالة على غيرها وأحيانًا على غير المؤمنين في التشريع وما قيمة دعوة لا تملك تشريعًا ينظم أحوال المؤمنين بها.

وأما الشريعة الإسلامية فهي تحمل شهادات دولية من مجامع قانونية عالمية على أصالتها وشمولها لجميع أحوال الإنسان وقابليتها للتطبيق في كل زمان ومكان وهذه كتب التراث الإسلامي تشهد بكل ذلك، ومع هذا فالمبشرون يريدون من المسلمين العدول عن هذا الصراط المستقيم الذي تولى الله سبحانه رسمه وإقامة معالمه وأناط سعادة الإنسان به، إلى لا شيء فأعجبوا أيها الناس.

إن المتأمل في كتب المبشرين وأسفارهم المقدسة يخرج بنتيجة حتمية واحدة وهي إن هذه الدعوة لا تملك لا عقيدة ولا شريعة وخلاصة ما تدعو إليه بعض مكارم الأخلاق كالزهد والحلم والتواضع ولين الجانب والإقبال على العبادة والتنسك وهذا لا شك جانب من الدعوة ولكن لا بد مع هذا من عقيدة تقنع العقل وتشيع القلب ومن شريعة تنظيم سلوك الإنسان وترشده في متاهات الحياة ونظرة متكاملة تعطي الإنسان تفسيرًا عن هذا الكون وكل هذه الأمور تفتقر إليها دعوة المبشرين.

بل نقول أكثر من هذا وما نحن بمبالغين وهو أن هذه الدعوة تفتقر إلى الأصول والمنابع الأولى التي تستمد منها أفكارها وآراءها ومبادئها وذلك لأن ما تعتمد عليه من كتب مقدسة ومن سيرة صاحبها الأول هو المسيح عليه السلام لا يصلح أن يكون أساسًا لدعوة كاملة لا من حيث النقل والثبوت ولا من حيث المضمون والمحتوى.

وأما من حيث النقل والثبوت فمن المتفق عليه عند المؤرخين والمنصفين من الناس أن أية أمة من أمم الأرض لا تستطيع أن تروي عن نبيها خيرًا واحدًا من كتاب أو سنة يرقى إلى مرتبة أخبار الآحاد عند المسلمين وأن بين هذه الكتب ومن أنزلت إليهم مفاوز من الانقطاع والمجاهيل التي لا يدري عنها أحد شيئًا وكذلك الأقوال المرورية عنهم لا يعرف لها سند أصلًا وإنما وجدت هكذا وولدت كما هي وقبلت كما وجدت وكما ولدت.

وأما العهد القديم الذي هو التوراة فقد ضاعت بإجماع المؤرخين من اليهود والنصارى وذلك حينما غزا البابليون بيت المقدس وأحرقوا هيكل اليهود وأن التوراة الماثلة بين أيديهم فهي التوراة التي أعاد كتابتها عزيز بخارقة تمت على يديه فاليهود والنصارى عالة على عزيز هذا في أصل دينهم وهذا كما ترون سيء لا يستسيغه العلم ولا يقره وذلك أن يعيد رجل كتابة كتاب مفقود بواسطة حلم أو تجلي ملك أو بقذف نور في قلبه، أو بشربه من ماء مبارك أو أكله من شجرة مباركة، ولا بد من إثبات الكيفية التي تمت بها إعادة كتابة التوراة بشكل يرتضيه العلم ولا سبيل إلى ذلك، وتوراة اليهود تخالف توراة النصارى، وتوراة السامرة تخالف التوراتين السابقين.

والأناجيل تبلغ الأربعة المعترف بها فهي من جملة أناجيل تبلغ العشرات كتبت جميعها بعد رفع المسيح عليه السلام.

ولم تعتمد رسميًّا إلا في القرن الرابع المسيحي وذلك أن اليهود قاتلهم الله حينما حرضوا الرومان على قتل المسيح ووشوا به إليهم وسعوا للقضاء عليه وعلى دعوته شدد الرومان الحملة على المسيح وأتباعه فرفع المسيح عليه السلام وشرد أتباعه في الأرض وتخفوا بدينهم وفي هذه الأثناء دخل بولس اليهودي في المسيحية لإفسادها، وزعم أن المسيح تجلى له وأنه يتلقى الإنجيل من المسيح مباشرة وأنه لا يجوز أخذ الإنجيل من غيره أي من غير بولس فكتب إنجيله ودس فيه ما درس من تعاليم الوثنية الباطلة وروج لهذا الإنجيل وجمع حوله أناسًا يقولون بقوله فانتشرت آراؤه في الناس ووضعت في هذا المقابل أناجيل أخرى ووقع التعارض فيما بينها وثار النزاع حول المسيح وحقيقة شخصيته وعم الجدل فعقد مجمع نيقية عام (325) لوضع حد لهذه المنازعات في عهد الملك قسطنطين الذي كان قد تنصر بتأثير أمة وعرض في هذا المجمع سبعون إنجيلًا وبعد أخذ ورد وقع اختيار الملك ومن معه على الأناجيل الأربعة.

ورفض غيرها واعتبرت غير قانونية، وألزم الناس رسميًا بهذه الأناجيل على ما فيها وهذه الأناجيل متعارضة فيما بينها وكل واحد منها يخالف الآخر ولا نكون مبالغين أبدًا إن قلنا إن كل صفحة منها يوجد فيها ما يخالف غيرها من سائر الأناجيل، وهي مختلفة في الحادثة الواحدة والشخص الواحد والقصة الواحدة، وهي في الحقيقة عبارة عن تواريخ ومذكرات كتبها أناس وضعت أسماؤهم عليها أو نسِبت إليهم وهي خليط من كلام المسيح وكلام الإنجيل وسير ووقائع جرت مع المسيح عليه السلام وهي مليئة بالخرافات والكفريات والضلال ويتخلل ذلك شيء من الزهديات التي تعتبر كل شيء في الإنجيل والنزاع قائم في كل ما يتعلق بهذه الأناجيل فهي غير مسلمة شكلًا وموضوعًا ولا نعرف تمامًا اللغة التي كتبت بها هذه الناجيل ولا تاريخ كتابتها ولا الأشخاص الذين كتبوها.

ولو كانت هذه الكتب مسلمة الثبوت من حيث السند لكان كافيًا لفقدان الثقة بها الترجمات التي تعرضت لها إذ إنه من الثابت أن الترجمة تقتل النص وتفقده جوهره، والترجمة الحقيقية المطابقة للأصل لا يمكن أن توجد أصلًا. ومع ما في هذه الأناجيل من الأباطيل والتحريفات فإن الله سبحانه حفظ فيها ما يقيم به الحجة عليهم من التبشير بمحمد عليه الصلاة والسلام ففي إنجيل يوحنا: (7: لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط فأما إن انطلقت أرسلته إليكم) (12: وإن لي كلامًا كثيرًا أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن 13: وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي) فهذا الكلام لا يمكن حمله إلا على محمد عليه الصلاة والسلام مع وجود إنجيل بربانا الذي يوافق القرآن في كثير مما قاله عن المسيحية ويقيم الحجة على النصارى ويخالف الأناجيل الأخرى المعتبرة في أسسها وعقائدها الكبرى، وهذا الإنجيل أكتشف في الغرب ولم يعرف في الشرق بل قالوا إنه وجد في مكتبة أحد البابوات وكان سببًا في إسلام القيم على تلك المكتبة.

هذه هي كتب المبشرين التي يريدون من المسلمين أن يتخلوا عن قرآنهم لأجلها يريدون أن نتخلى عن قرآننا الذي تعرف كل سورة منه بل كل آية متى نزلت وأين نزلت ولماذا نزلت وتعرف اللغة التي نزلت بها ودون منذ اللحظة التي نزل فيها واستظهره الناس لفورهم وتلوه في صلواتهم ليل ونهار وتعلمه طلاب العلم في المساجد والدارس وتدارسته الصبية في الكتاتيب والنساء في البيوت وانطلق به المجاهدون في أرجاء الأرض والذي لم يتعرض لترجمة أصلًا فهو يحتفظ وسيبقى بحفظ الله محتفظًا بطابعه الذي نزل فيه، مع خلوه من التناقض والتضارب واحتوائه لمنهج متكامل في العقيدة والشريعة والعبادة والأخلاق وإعطائه تفسيرًا سليمًا سديدًا عن الكون والحياة والإنسان مع ثبوته بجدارة واعتزاز أمام النظر العلمي المتجرد في كل ما ذكر، مع شهادة الواقع والتاريخ على تلك الجدارة { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.

{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.

فهذا هو القرآن وهذه هي الأناجيل، فيا حسرة على عباد يعطلون عقولهم ويكابرون الواقع ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.