المحرمات خبائث
وإذا كانت تلك هي تكاليف الإسلام فيما أمر، فما هي تكاليفه فيما نهى؟
يطول بنا البحث جدًا لو استقصينا جميع المحرمات لنظهر وجه المصلحة في حكمة التحريم، ولكننا نعلم أن البشر متفقون على كراهة الظلم في نفوسهم، ولذلك لا نجد مشرعًا يبيح الظلم أو يقول به، والإسلام قد حرم قتل النفس، وشهادة الزور، ونقض العهد، والزنا، والربا، والكذب، والخيانة، والخمر، والميسر، والسرقة... وإنك لو تحريت الأساس الذي تبنى عليه جميع هذه المعاصي لوجدت الظلم فيها جميعًا.
وإذا غاب عن ذهن القارئ أن شرب الخمر ظلم فليعلم أن شارب الخمر ظالم لجسده ولماله ولأسرته ولذريته، لأن سوء الخمر ممتد إليها جميعًا لا محالة. وإذا تساءل عن سر كون الزنا ظلمًا فليستمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرًا الحكمة في التحريم، ومبينًا أن الزنا ظلم للناس لا يرتضيه المرء لنفسه:
روى أبو أمامة أن غلامًا شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا نبي الله أتأذن لي في الزنا، فصاح الناس به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قربوه، ادن) فدنا حتى جلس بين يديه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أتحبه لأمك) فقال: لا، جعلني الله فداك. فقال: (كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لأبنتك؟) قال: لا، جعلني الله فداك، قال: (كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم. أتحبه لأختك؟). وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحدة لا، جعلني الله فداك، وهو صلى الله عليه وسلم يقول كذلك الناس لا يحبونه، وقالا جميعًا في حديثهما " فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: (اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحصن فرجه) رواه الإمام أحمد بإسناد جيد.
أفترى يا أخي القارئ أن الإسلام كان جميلًا حينما حرم هذه المظالم لكي يحفظ لك مالك، وعرضك وكرامتك، وحريتك وصحتك، أم أنه قبيح مخيف كما يدعي الخصوم عدوانًا وظلمًا؟
هل ترى يا أخي من الصواب أو الجمال في شيء: أن نحل الخيانة محل الأمانة، والكذب محل الصدق، والغدر محل الوفاء، والزنا محل العفاف، والميوعة محل الرجولة؟
وإنك إذا أدركت مواطن القبح والجمال من جميع هذه الخصال، أدركت بلا شك أن الإسلام في الذروة من الجمال في كل ما أمر به ونهى عنه.
جمال المعاملة
وإذ يتجلى لنا الإسلام جميلًا فيما أمر به وفيما نهى عنه فإنه يتجلى لنا أجمل في أدب المعاملة مع الناس حيث يظهر العفو، والتسامح، وكظم الغيظ، والإحسان، والتواد، والحرص على العدل حتى مع الخصوم.
يقول الله تعالى:
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}.
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
الآيات في ذلك كثيرة، والصور التي أنزلت بها جميلة، حتى ليكاد المطلع لا يغادر منها آية إلا أوردها ولا صورة من حسن المعاملة إلا سجلها، فهل ترى حسنًا يضاهي هذا الحسن أو يدانيه، في سلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان، بل أنك لتجد كمال الحسن في معاملة العدو حين يحرص الإسلام على إيصال حقه إليه، ويجعل تفويت حقه جريمة وظلمًا، وفي ذلك يقول تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
وقد وردت في حسن المعاملة ومكارم الأخلاق، أحاديث كثيرة في السنة الصحيحة، لم تدع زيادة لمستزيد من درجات الكمال، ولا لطامع في صور البهاء والجمال.
يقول صلى الله عليه وسلم:
(اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) أحمد والترمذي. حسن صحيح.
(اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلق أخاك ووجهك منبسط إليه) أبو داود والترمذي.
(ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق) الترمذي حسن صحيح.
(أن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا) الترمذي حسن.
وقد ورد في الأثر (صل من قطعك وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك..)
جمال المظهر
ومن جملة ما شرعه الإسلام للناس بعد تنظيم المعاملة، واضفاء ذلك البُرد الجميل عليها من العدل والتسامح، والعفو والتراحم، وإظهار النعمة، والتمتع بالزينة، فالمسلم في تحقيق الإسلام جميل في باطنه، جميل في ظاهره.
يقول تبارك وتعالى:
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}.
وفي الحديث: (أن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) الترمذي وحسنه.
فهل تجد مثل هذا التوجيه في دين آخر، أو نظم البشر، بمثل هذا الضبط وعمق النظر؟ أنه ضبط يلتزم بالاعتدال، فلا يميل إلى البطر والإسراف، زلا ينحرف إلى التقتير والإلحاف وهذه حسنة كبرى من حسنات هذا الدين الجميل حرص عليها وجعلها أساسًا في كثير مما شرع.
يقول الله تبارك وتعالى:
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}.
{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}.
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
وروي عنه عليه الصلاة والسلام في الاعتدال بالعبادة، والاقتصاد في الطاعة:
(إن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى) روى من طرق، ورجح البخاري إرساله.
وحينما قال أحد الرهط الثلاثة: أنا أصلي الليل أبدًا، وقال الثاني: وأنا أصوم الدهر أبدًا، وقال الثالث: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. قال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
أفلا ترى يا أخي أن الجمال ضربة لازب على هذا الدين، وأن الاعتدال يلازم أمره ونهيه، وأن اليسر مزيته، وأن العقل قرينه، وأن حسن الخلق أساس معاملته؟
لا بد من نظام
وأحب قبل أن أختم المقال أن ألفت النظر إلى أنه ما من مجتمع بشري يعيش بغير نظام، وإذا كان ثمة نظام، فثمة تكليف لا محالة، فالطامع في الحرية المطلقة التي ليس لها قيود ولا حدود، إنما هو طمع في السراب، وتيه في الخيال، ذلك أنه إذا طرح الناس كل نظام، هبطوا إلى مستوى الحيوان، وعاشوا عيشة الذئاب وعانوا الأهوال من شريعة الغاب.
وإن رجعوا إلى الحرية النسبية التي تنتهي فيها حرية الفرد حيث تبدأ حرية الآخرين، فقد رجعوا إلى إنسانيتهم واعترفوا بالتكليف سببًا لسعادتهم وعزتهم وكرامتهم.
وإن التاريخ لم يذكر لنا مجتمعًا يلهو ويلعب ونال حظًا من الكرامة والعزة، أو تسلق مرقى من المجد والسؤدد.
وإذا كان لا بد من التكليف، فقارن بين تكليف الإسلام كما رأيته، وبين تكاليف أي نظام أو دين في الدنيا تجد الفرق كبيرًا في السهولة واليسر والعدالة والانصاف، والانسجام مع العقل، والمرونة الباقية مدى الدهر.
ورحم الله من قال:
لم يمتحنا بما تعيا العقول به * حرصًا علينا فلن نرتب ولم نهمِ
هذا هو الإسلام. توحيد خالص ينسجم مع العقل، وتطمئن به النفس، وعبادات سهلة فيها صلاح الروح والجسم، وتهذيب الخلق وتوجيه الغريزة، وهي ضمن نطاق القدرة، فلا تكليف بما لا يطيق العقل، أو لا يستطيعه الجسد، ومحرمات أثبت العقل والعلم والطب ضررها وخطرها وظلمها، فالجمال والكمال في تركها والابتعاد عنها.
ومكارم أخلاق في معاملة الناس هي زينة الدهر في تاريخهم، وفخر الإنسانية في سجلات الخلود، فالمسلم حين يلقاك بإسلامه عاقل لا تلج الخرافة إلى عقله، عالم لا يصل الجهل والسفه إلى حلمه، يزينه التواضع، وتعلوه البشاشة، ويملأ صدره الحلم والتقى، وتغشى جسمه الوضاءة والبهاء، وهو مع كل ذلك قوي في غير قسوة، متواضع في غير ذلة، عزيز بغير استكبار، فهو بحق صورة الجمال وعنوان الكمال.
ولا غرابة في ذلك فهو ثمرة الدين الرباني الذي أنزله الحكيم العليم رب الكمال والجمال، وأرسل به محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عن النفوس إصرها، ويحطم أغلالها، ويبدد شكوكها وأوهامها، ويخرجها من الظلمات إلى النور.
كما قال تعالى:
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
جعلنا الله من المفلحين، ووفقنا جميعًا لإتباع ذلك الرسول الكريم، ولنصرة الدين القويم، وتبليغه إلى الناس كافة لكي تستنير القلوب بنور الإيمان، وتستضيء الدنيا من جديد بشمس الإسلام.
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.