جمال الإسلام (1)مقالات

حسن هويدي

ظن كثير من الناس سُوءًا بالدين، ولقد كان ذلك نتيجة لأسباب متعددة: منها ثورة أوروبا على دينها في القرون الوسطى، ومنها نشوء المذاهب المادية التي لا تعترف بالروح ولا تنظر إلى السماء، ومنها غلبة الشهوات على النفوس حتى أمست لا ترضخ لعقيدة ولا تستكين لنظام، واستمر هذا التيار عبر الزمن، وسرى إلى أكثر البلاد، فظن الناس في بلادنا أن (الدين) هو (الدين) في كل عصر، وكل مصر، ورأوا لأوروبا نهضة عارمة، وقوة غالبة، فتوهموا أنها ما كانت إلا للتجرد من الدين وليس عليهم - إزاء هذه النظرة الساذجة - إلا أن يثوروا على دينهم، ويعطلوا أحكامه حتى ينهضوا كما نهض غيرهم.

ولقد أمسى هذا المفهوم السطحي لدى كثير من شبابنا - بكل أسف - أمرًا مسلمًا به، بل أصبح - في نظرهم - الدليل على التقدم والعلم، بل تعداه إلى كثير من الغرور، وإيغال في الجهل والجور، حينما انقلب مفهوم الاستغناء عن الدين اشمئزازًا منه، وتكبرًا عليه وحربًا لا هوادة فيها أعلنت عليه من كل جانب.

حدث كل ذلك والبلاد العربية والإسلامية تغط في نومٍ عميق من التأخر العلمي والخلقي، وليس فيها أولئك الأفذاذ من العلماء، ولا الفطاحل من الحكماء، يدفعون عنها العاديات، ويبصرون أبناءها بما يرد عليهم من الطامات، فأخذت الأمة على غرة، واقتنص فيها الدين على حين غفلة، وليس الأمر واحدًا في أمة تهاجم وهي قوية مستعدة، وأخرى تهاجم وهي ضعيفة غافلة، وهكذا تهيأت أسباب الهجوم على الدين من كل جانب، فهوجم الإسلام في عقر داره، فوصف بالخرافة وهو العقل السليم، وبالقسوة وهو اللين والسهولة، وبالقبح، وهو المشرق الجميل.

غير أن العاقل الذي يحترم نفسه، ولا ينساق مع الهوى، ولا يكون حكمه تبعًا للشائعات يأبى إلا أن يفكر قبل ان يحكم، وأن يتجرد من الهوى، ولا يطلق الحكم قبل الاطلاع على الأمر والإحاطة به من كل جانب.

فهل الإسلام مثل تلك الأديان التي أطرحتها الشعوب؟ وهل في الإسلام عسر لا يطاق؟ وهل في عباداته ومعاملاته وتشريعه ما تشمئز منه النفوس وتعافه الفطرة السليمة؟ أم أن في تشريعه الخلقي والاجتماعي من الجمال، واليسر، والحكمة ما يسحر الألباب، ويأخذ بمجامع القلوب؟

لا ريب أن العاقل لا يحتاج إلى كبير جهد لكي يتميز الإسلام عن سائر الأديان بما يتجلى فيه التوحيد، والانسجام مع العقل وتمجيد العلم، والبحث عن المصلحة، والمرونة التي يقتضيها الزمان والمكان، وإنكاره الشديد على كل ما يشين الرشد: من الخرافة والكهانة والسحر، وما ينقص الخلق: من الظلم والكذب والغدر والخيانة.

ومن الواضح أننا لا نستطيع في مثل هذا المقال أن نمعن في التفصيل، استيعابًا لفضائل الإسلام، ولكننا نتحرى في قواعد الإسلام، وأركانه الأساسية ما يظهر الحق جليًّا لمن تسمم فكره بتلك المفاهيم المشوهة عن الإسلام، حتى يدرك جمال الإسلام وكماله، وافتراء الخصم وضلاله.

لا مشقة ولا حرج

أما عن رمي الإسلام بالمشقة والعسر، كبقية الأديان، حتى أظهره الخصوم شبحًا مخيفًا مرعبًا، فإن الإسلام قد اتخذ السهولة واليسر قاعدة أساسية، وأصر عليها حتى بدت آثارها واضحة في العبادات، والمعاملات والحدود، وإليك الأدلة من الكتاب والسنة:

قال الله تعالى في محكم كتابه:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} البقرة-185.

{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج-78.

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة-286.

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا} الطلاق-7.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفروا) متفق عليه.

(إن الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا) البخاري.

وفي الصحيح أنه ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.

وإذا ثبتت هذه القاعدة الأساسية الجميلة في الإسلام فما هي تكاليفه في المأمورات، والمنهيات، والمعاملات على وجه الاجمال:

أما المأمورات فيقول صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان) فهي عقيدة تدعوا إلى الإيمان بالخالق الأعظم الواحد، وأي عقل يستطيع أن يصبر على الجحود إذا فكَّر وأنصف وهل يسيغ العقل للعاقل أن يعتقد بأن الوجود قد انبثق من العدم؟ أو أن الوجود بغير موجد؟ أو أن التدبير المحكم المتناسق بغير مدبر؟[1]

إن العقل السليم قد ألزم العاقل أن يعتقد بخالق الوجود، فأي حرج إذًا يصيب العقل من الدعوة إلى ذلك؟ بل أن الحرج الشديد تكلف اعتقاد العكس لأنك حينئذٍ تدعو العقل إلى الإيمان بالمستحيل، حيث تدعوه لأن يؤمن بأن الشيء خلق من لا شيء، وأقبح به من اعتقاد متناقض مشين.

والدعوة هنا أيضًا إلى توحيد الخالق، وهذا التوحيد الخالص أصر عليه الإسلام، وامتاز به، وجعله الأساس الأول، وذلك هو الذي ينسجم مع العقل في أكثر من برهان، حيث يبطل العقل كل قول بالتعدد ببراهين كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، وقد أشارت إليها الآيات الكريمة التالية مظهرة استحالة التعدد وبطلانه:

قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}.

التوحيد نداء الفطرة

إذًا فعقيدة التوحيد هي ضالة العقل المنشودة، وهي أمنية النفس في صميم فطرتها، إليها تأوي وبها تطمئن، وإنها لتبقى حائرة معذبة بغير الإيمان بالخالق، يائسة مضطربة بغير التوحيد الخالص، فهذا تكليف جميل انسجم مع نداء الفطرة الأصيل، وهل أجمل من تلبية النداء العميق الملح بتحقيق مطلبه، وإيصاله إلى هدفه، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.

وإن الفرق يبدو واضحًا بين ثبات المؤمن {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، واضطراب الملحد {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} حينما يشتد عليهما البلاء، وتحيط بهما الكوارث، فيسخر الملحد قوته ويستنفد حيلته، فلا ينفرج البلاء وتضيق به المذاهب، وتسود الحياة في عينيه، وينفد صبره وينقطع أمله، ويتحمل جراء ذلك في شعوره من الضنك، والحيرة والقلق، والوجل، ما يعجز عن وصفه القلم فينتحر أو يُجَن: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.

فإن كان انتحارًا أفضى إلى الموت فهي المصيبة، وإن كان انتحار القلب فهو ميتة في كل لحظة، وهي أكبر مصيبة.

ولسان حاله حينئذٍ يقول:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا * وحسْبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا

أما المؤمن فيأخذ بالأسباب، ويبذل الجهد، غير منكر لسلطان الأسباب التي فطر الله الطبيعة عليها، فإن لم يبلغ غايته، ولم تنفرج كربته، تعلق بمسبب الأسباب وركن إلى رب الأرباب فكان له في قلبه أجمل العزاء، وأنجع الدواء، بل ربما قنع من الغنيمة بالإياب ذلك أن تعلقه الجميل بمولاه العظيم، يجعله يزهد في طلبته، ويستمرئ ألم مصيبته، راضيًا بتقدير خالقه وحكمته، وربما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا أرحم الراحمين... إلى من تكلني: إلى عدو يتجهمني، أم على غريب ملكته أمري، إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي).

ومن اعتاد النظر إلى الأمور من جميع الوجوه أدرك أنها نسبية، فرب مكروه محبوب ورب ضارٍ نافع. والمهم فيها بعد الحيطة حصول الرضا، فإنه الذي يورث الراحة والسكون، ويهب القلب السرور والاطمئنان.

وهذا هو الفرق بين يسير على بصيرة وفي طريق مستقيمة، ومن يمشي مكبًا على وجهه، لا ينظر إلى أبعد من أنفه يتردى في ظلمات من التردد والحيرة، وضلالات من الريب والشبهة، لا يهتدي إلى منار، ولا يقر له قرار: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

العبادات شكر وتربية

والصلاة لو استعرضت ما فيها عقلًا لوجدته فنونًا من الجمال ومعارج من الكمال، فهي نظافة ورياضة، ونظام، وجد، وتهذيب وندم على الذنب، وعهد مع الرب على ألا نطغى، ولا نسيء، وأن نحسن ونصلح، وهي مع الجماعة: مساواة، وطاعة، ووحدة، يتجلى فيها المجتمع منسجمًا متماسكًا، عنوانه المحبة والوئام وسبيله الطاعة والنظام.

ونحن بذلك لا نريد تجريد الصلاة من كونها عبادة للخالق الأعظم الذي يستحق العبادة، ولكنه سبحانه لم يكلفنا ما لا نستطيع، بل التكليف في حدود الطاقة مقترنًا بمصلحة الإنسان، متصفًا أبدًا بالكمال والجمال، منسجمًا مع العقل الحر السليم.

والصيام من فوائده الجسمية والخلقية كما هي مدونة في كتب الفقه، والطب، والأخلاق، وكما يصفه علماء العصر في المجال الصحي، والخلقي، والفلسفي، كل حسب اختصاصه، يكاد يكون غنيًا عن البيان. ولعل جماله يبرز في قوة الإرادة عند طلوع الفجر، وجو الفرح والبهجة عند غروب الشمس وحين يتجلى النظام في المجتمع: فيحجم في ساعة واحدة، ويقدم في ساعة واحدة، مما تعجز عن تصميمه في ظاهره وباطنه أنظمة الدنيا.

ومن جميل عدالته وعميق حكمته أنه إذا سافر المرء أو مرض، أو حاضت المرأة أو عجزت من حمل أو رضاع (فعدة من أيام أخر)، فإن لم يستطع المريض القضاء فعليه الفدية، فإن لم يجد فلا شيء عليه، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.

والزكاة التي يتجلى جمالها في موقف الغني تجاه الفقير، وجعل ذلك القسط من المال حقًا في أموال الأغنياء، يؤدونه بغير منٍّ ولا أذى، {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}.

وبذلك وغيره من التشريع الاقتصادي في الإسلام يتحقق التوازن المالي، وتنعدم الطبقية الممقوتة، وتزول ظواهر البؤس القاتل، ولقد مر على المسلمين زمن كانت الزكاة تنقل فيه من بلد إلى بلد فلا تجد من يقبلها. ولم يكلفنا الإسلام في ذلك ما لا نطيق سوى تلك النسب المعلومة المقبولة {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ}، وذلك من يسر الإسلام وشدة تلطفه بالنفس البشرية.

وقارن بين هذا التشريع الاقتصادي العادل، وبين المذاهب الاقتصادية الحديثة تجد الفرق كبيرًا بين يسرٍ راعى كوامن النفس وضمن لها الحرية، وعسر أرهقها وحملها ما لا تطيق وقضي عليها بالعبودية؟

فأين مثل هذا الجمال الكامن في هذا النظام الرباني الذي يكفل العدالة الاجتماعية، ويصون الحرية، ويوزع فيه المال برًا وقسطًا، وتنقاد إليه النفوس طوعًا وحبًا، بغير إكراه ولا إرهاق ولا تعسف.

والحج تلك العبادة الخالصة، والسياحة الرائعة، ومواقف المساواة الكاملة بين الغني والفقير، والمأمور والأمير حتى لكأنه الحشر بين يدي السميع البصير، وأنك لتدرك أنصاف الخالق للمخلوق في جميل قوله تبارك وتعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} معلقًا ذلك على الاستطاعة، وتلمس اليسر والسهولة في جعله مرة واحدة في العمر ولم يجعل الاقتصار على مرة واحدة مفروضًا، بل جعل باب الحرية مفتوحًا أمام القادر إذا أراد أن يستكثر من الخير.

ولا بد من أن يلوح للمستبصر ما يشمل عليه ذلك المؤتمر السنوي العام من فوائد جمة، ومنافع متنوعة، حيث تبحث شؤون الأمة، وتتوثق عرى المودة، وتتجلى آيات الرحمة، فهل تجد رحمك الله في أنظمة الدنيا جمالًا يضارع هذا الجمال، في جميل اللقاء، وتقوية الأواصر، وشحذ الهمم، وعمق النظر، وبعد الأثر؟.

 


[1] من أراد التفصيل في هذا الأمر فليراجع رسالة (الوجود الحق) طبعة المكتب الإسلامي ببيروت - دمشق.