كلمات في الحوار الدعويمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

الحوار والمحاورة تفاعل بين المتحاوِرينَ حيث يتراجعون الكلام بينهم، وتحادثٌ وتجاوب قوليٌّ، والحوار حقيقة مجتمعية إنسانية، فأينما وُجد المجتمع البشريُّ، وُجد الحوار. ويُشير الجذر اللُّغويُّ "حَورَ" إلى دلالات، منها: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، فالحوار يعطي فرصة للقول والمراجعة بين المتحاوِرينَ، ومن معانيه أيضًا ما يُفيد الحَيرة من "حار"، فيعطي دلالة مناقضة؛ فليس كل حوار يأتي بالحق والهدى والخير؛ فقد يزيد المرء ضلالاً.

لذا؛ عندما نصف الحوار بالدعوي، فنقصد الحوار الذي يأتي بالهدى والخير.

والحوار من أفضل الوسائل لمعالجة الاختلافات بين البشر؛ قـال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118-110]؛ فكثيرًا ما فعل الحوار الهادئ المقنع ما لم تفعله السيوف والقتال، فالحوار من أفضل الطرق لتبيين الحق، وإقناع أصحاب الأهواء والضلال والانحراف الفكري والعَقَدي بالحق والهدى.

والحوار الدعوي يكون مع المسلم ومع الكافر، أما المسلم فلدعوته إلى الالتزام بالطاعة وهجر المعصية والالتزام بالسنَّة، والحوار مع الكافر يكون بتقرير المشترَك الإنساني والحضاري، ومساحة الاتفاق التي تختلف من عقيدة لأخرى، والأمور العقلية البَدَهية التي تتَّفق عليها وتُقرِّرها عقول البشر؛ فالحوار أفضل وسيلة لدعوة الكافر إلى الإسلام، وإقناعه بأنه الدين الحق.

وهذا ما أمرنا الله به حين قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]؛ فالحوار والجدال بالتي هي أحسن أمرنا بها في الدعوة إلى الله تعالى، والقرآن الكريم مُترَع بالحوارات بين رسل الله وأقوامهم؛ كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وهود وصالح وغيرهم.

 إذا راعى أهلُ الحق معهم أدبَ الحوار وقواعده وأصوله؛ بأن يكون الحوارُ حول نقطة محدَّدة يتمُّ التركيز عليها، وأن يكون الحوارُ بعد الاتِّفاق على الأصول، ثم الفروع؛ لأن الحوار في الفروع قبل الاقتناع بالأصول ضياع للوقت.

ويجب على المحاور الداعية - إذا أراد أن يكون حوارُه ناجحًا ويوصل الحق -: أن تكون نيِّتُه خالصةً لله تعالى في قيامه بواجبه الدعوي، لا إظهار ثقافته وبراعته في الحوار، أو الفخر والانتصار لنفسه، والعلو على المحاوَر وإفحامه.

 وأن يكون لديه برهان ساطع وحُجَّة قوية، وأن يُراعيَ أدب الحوار وقواعده وأصوله، وأن يتحلَّى بصفات المحاور الناجح بالهدوء والتواضع والحجَّة القوية وحُسن العَرْض دون رفع الصوت بترتيب الأفكار التي سيطرحها على محاوره؛ فعلى المحاور أن يحسِّن ويحلِّي مرارة الحق بحسن عرضه وقوَّة حُجَّته.

ولا يكفي أن يكون الحق مع المحاور؛ بل لا بد أن يكون - مع ما ذكرناه آنفًا - همُّ المحاور الحقَّ والهدى وإيصاله للآخرين، وليس الانتصارَ للنفس؛ يقول الإمام الشافعيُّ - رحمه الله -: "مَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا أَحْبَبْتُ أَنْ يُوَفَّقَ وَيُسَدَّدَ وَيُعَانَ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ رِعَايَةٌ مِنَ اللَّهِ وَحِفْظٌ، وَمَا كَلَّمْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا وَلَمْ أُبَالِ بَيَّنَ اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِي أَوْ لِسَانِه"[1].

فينبغي للمحاور: أن يكون مُنصِفًا باحثًا عن الحقيقة أنَّى وُجِدَت؛ فالحكمةُ ضالَّةُ المؤمن، أنَّى وَجَدَها التقطها، والرجوعُ إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل.

وعلى المحاوِر أن يُعطي لمحاورِهِ فُرصةً للحديث، وينتظره حتى يُتمَّ حديثه مع حسن الإصغاء إليه، وعليه أن لا يحمِّل كلام محاوره ما لا يحتمل بالتهويل، وأن يظهر حُسن خلقه ولا يعتدي في وصف محاوره.

وعلى المحاور أن يعلم متى يتجنَّب الحوار؛ كأن يكون الحوار لا يجدي نفعًا، أو كان مَضْيَعةً للوقت وإساءة للمتحاورين؛ كأن يكون في أمور لا طائل من ورائها، أو كان التحاور حول قضايا سَبَق حسم مادتها ولا تؤدِّي إلا إلى فُرقة المسلمين، أو التحاور حول موضوع لا علم له به.

ونسأل الله السلامة مما ابتُلي به المسلمون بإجراء حوارات ومناظرات في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة مع أناس أهل جهلٍ بالأوَّليَّات وأهل مِراءٍ لا يخجلون أن يُقدَّم هؤلاء بأوصاف المفِّكر والخبير والعالم...!

ويختلف حكم الحوار باختلاف الحالات التي يجري فيها:

- فقد يكون واجبًا: إذا كان لنصرة الحق بإقامة الحجج والبراهين لدفع الشبهات عن ثوابت الإسلام.

- وقد يكون فرضَ عين إذا لم يوجد سوى عالم واحد، وكان أهلاً للحوار الناجح في الحالات التي يجب فيها، وكذلك إذا ندب الحاكم عالِمًا لمناظرة أهل الباطل وكان أهلاً لممارسة الحوار.

- وقد يكون الحوار مندوبًا مثل أن يكون لتأكيد الحق وتأييده، ومع غير المسلمين الذين يرجى إسلامهم.

- ويحرم الحوار في الحالات التي ذكرناها سابقًا في تجنُّب الحوار، وكذلك إذا ظن المحاور أن الغرض من الحوار طمس الحق، أو قهر المسلم، أو إظهار العلم تباهيًا، أو من أجل الدنيا.

قال القرطبي: "وَالْجَدَلُ فِي الدِّينِ مَحْمُودٌ، وَلِهَذَا جَادَلَ نُوحٌ وَالْأَنْبِيَاءُ قَوْمَهُمْ حَتَّى يَظْهَرَ الْحَقُّ، فَمَنْ قَبِلَهُ أَنْجَحَ وَأَفْلَحَ، وَمَنْ رَدَّهُ خَابَ وَخَسِرَ. وَأَمَّا الْجِدَالُ لِغَيْرِ الْحَقِّ حَتَّى يَظْهَرَ الْبَاطِلُ فِي صُورَةِ الْحَقِّ فَمَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ فِي الدَّارَيْنِ مَلُومٌ"[2].


[1] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 49).

[2] تفسير القرطبي (9/ 28).