إرشادات دعوية في النظر إلى أهل المعاصيمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن العصاة عند أهل السنة والجماعة هم من أهل الإيمان، وإن كانوا لا يستحقون اسم الإيمان المطلق، فإنهم لا ينفى عنهم مطلق الاسم، فيقال: العاصي مؤمن ناقص الإيمان بقدر معصيته. 

ومن المتقرر في النصوص الشرعية أن بني آدم جميعًا خطاؤون، فليست العصمة لأحد منهم إلا للرسل والأنبياء – على تفصيل معروف في علم العقائد - ، وذلك أن المعصية لها أسباب متعددة، من ضعف القلب، وغلبة الشهوة، والجهل، وإغواء الشيطان، والبيئة الفاسدة، وغير ذلك، وليس سببها الجحود والعناد.

والعصاة هم من أصناف المدعوين، الذين هم محل عناية الداعية واستهدافه، بالوسائل والأساليب الدعوية القويمة.

والدعاة إلى الله تعالى على هدى وبصيرة لا ينظرون إلى أهل المعاصي نظرة ازدراء واحتقار، ولا يعتقدون في أنفسهم أفضليتهم على أهل المعاصي، فضلًا عن أن يجعلوا تلك الأفضلية المدَّعاة منطلقًا لدعوتهم، وتعاملهم مع الناس.

وإذا كان الداعية إلى الله تعالى يرى نفسه وقد أكرمه الله تعالى عن كثير من المعاصي الحسية الظاهرة، كالزنا، وشرب الخمر، فلينظر: هل صان أيضًا قلبه عن الغل والحسد والكبر ؟ وهل خلص قلبه في أعماله وعباداته لله تعالى، فتبرأ من الرياء والشرك؟

يقول الإمام ابن القيم:

( وأكثر الناسِ من المُتنزِّهين عن الكبائر الحسيَّة والقاذورات في كبائر مثلها أو أعظم منها أو دونها، ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها، فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم، وصولة طاعاتهم، ومِنَّتِهم على الخلق بلسان الحال، واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم، اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم، وتوابع ذلك = ما هو أبغض إلى الله، وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك. فإن تدارك الله أحدهم بقاذورة أو كبيرة يوقعه فيها ليكسر بها نفسه، ويعرفه قدره، ويذله بها، ويخرج بها صولة الطاعة من قلبه، فهي رحمة في حقه، كما أنه إذا تدارك أصحاب الكبائر بتوبة نصوح، وإقبال بقلوبهم إليه، فهو رحمة في حقهم، وإلا فكلاهما على خطر ). مدارج السالكين (1 / 187).

إن الداعية إلى الله تعالى يرى في حال العصاة مشهدين:

المشهد الأول: مشهد القدر: فيرى أن ما هم واقعون فيه إنما هو جار بقدر الله وإرادته، فيورثه ذلك رحمة بهم، وشفقة عليهم.

المشهد الثاني: مشهد الشرع: فيرى أن ما هم واقعون فيه مخالف لأمر الكريم المنان، الذي من حقه على عباده أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر، فيورثه ذلك غَيرةً على محارمه أن تنتهك، فيكون ذلك محركًا له وباعثًا على أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ودعوتهم إلى الله تعالى.

وإلى هذين المشهدين يشير ابن القيم في (النونية) بقوله :

فانظر بعين الحكم وارحمهم بها = إذ لا تُردُّ مشيئةُ الديان

وانظر بعين الأمر واحملهم على = أحكامه، فهما إذا نظران

ومما يحسن التذكير به والتنبيه إليه لدى تعامل الداعية مع أهل المعاصي، الذين هم أحد أصناف المدعويين الذين سيكونون محلًا لدعوته، وإرشاده وتنبيهه:

أولًا: أن ينظر الداعية في نفسه وذنوبه: فهو سيلاحظ بلا شك التقصير، والظلم، والتفريط، إذ لا أحد يدخل الجنة بعمله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال ابن أبي مليكة:

أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه.

ولله در الألبيري إذ قال:

وقل: يا ناصحي، بل أنت أولى = بنصحك لو لفعلِك قد نظرتَا
تُقطِّعُني على التفريط لومًا = وبالتفريط دهرَك قد قطعتا

ولذلك كان من فوائد وقوع العبد في الذنب ما ذكره ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) بقوله:

(ومن فوائد الذنب: أنه يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم ويتفرج بطانه، ويزول عنه ذلك الحصر والضيق والانحراف وأكلُ بعضه بعضًا، ويستريحُ العُصَاة من دعائه عليهم، وقنوطه منهم، وسؤال الله أن يخسف بهم الارض، ويسلط عليهم البلاء، فإنه حينئذٍ يرى نفسه واحدًا منهم، فهو يسأل الله لهم ما يسأله لنفسه، وإذا دعا لنفسه بالتوبة والمغفرة أدخلهم معه، فيرجو لهم فوق ما يرجو لنفسه، ويخاف على نفسه أكثر مما يخاف عليهم؛ فأين هذا من حاله الأولى، وهو ناظر اليهم بعين الاحتقار والازدراء، لا يجد في قلبه رحمة لهم، ولا دعوة، ولا يرجو لهم نجاة، فالذنب في حق مثل هذا من أعظم اسباب رحمته.

مع هذا فيقيم امر الله فيهم طاعةً لله، ورحمة بهم، وإحساناً اليهم، إذ هو عين مصالحتهم، لا غلظة، ولا قوة، ولا فظاظة).

ثانيًا: أن يرمي الداعية بنظره نحو العواقب والخواتيم: فإنما الأعمال بالخواتيم.  

فهو إذا قارن بين نفسه وبين العصاة - وقد رزقه الله الطاعة، وحرمهم منها -، مقارنةً لحظيَّة آنيَّة سيجد نفسَه بلا ريب خيراً منهم، فربما شعر بالأفضلية عليهم، لكن عندما تكون مقارنته بناء على أن الوهاب - جل وعلا- الذي وهبه ما هو فيه من الطاعة والخير قد يسلبه منه، وينعم على أولئك بمثل ما كان عليه من الخير والطاعة = فإن نظرته بلا شك ستتغير.

واجعل لوجهك مقلتين كلاهما = من خشية الرحمن باكيتان

لو شاء ربك كنت أيضًا مثلَهم = فالقلب بين أصابع الرحمن

ولذا اشتد خوف السلف من سوء الخواتيم. ومما جاء في ذلك:

أن سفيان الثوري بكى ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذه، إنما أبكي خوف الخاتمة. (العاقبة في ذكر الموت) (ص175).

ثالثًا: الداعية ابن مدرسة تعينه على التواضع وهضم النفس، وهي مدرسة الدعوة:

إذ إن أعظم بواعث الدعوة إلى الله: هو إرادة الخير بعباد الله ، ووجود هذا الباعث يتنافى مع وجود تلك النظرة المتعالية لأهل المعاصي، فلا بد من أن ينفي أحدهما الآخر.

إن لذة البذل والعطاء لا يشعر بها إلا الدعاة، وهي أعظم من لذة الأخذ، والداعية باذلٌ معط، وليس انتهازيًا، وذلك مما يجعله من ذوي النفوس العظيمة، متخلقًا بأخلاق الكبار.

والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا في غاية الحرص على هداية قومهم، حتى قال الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم : (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)، وقال : (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين).

فأين هذا الحرص من تلك النفسية المريضة التي يقتصر نظرها للعصاة على الازدراء والاحتقار؟! قال بعض السلف: وددت أن هذا الخلق أطاعُوا الله، وإن لحمي قُرض بالمقاريض.

رابعًا: الداعية إلى الله تعالى لا ينسى المدعوين من الدعاء لهم بالهداية: فيكثر من الدعاء لهم، فيدعو لهم بالهداية والرحمة: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون)، فلا شك أن الدعاء مما يورثه شفقة بالمدعو له، ورحمة به، ورغبة في سعادته.

خامسًا: على الداعية أن لا ينسى أن كثيرًا من المدعوين ضحايا: فمن نظر في حال العصاة في مجتمعاتنا: يجد أن كثيرًا منهم في مقام الضحية، فهم ضحايا للغزو الفكري والإعلامي الذي يمارسه شياطين الإنس والجن.

يقول الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله:

(إغراقُ المجتمع في الفساد الخلقي بشتى أنواعه خيار استراتيجي لكلّ القوى المُعادية للمدّ الإسلامي؛ لأنَّ الوصول بالرأي العام إلى مستوى الرفض الاختياري لكل ما هو نظيف يعني نجاح تلقيح المجتمع ضدَّ الصلاح، وهو في النهاية مؤشر على انحصار الحركة الإسلامية في دائرة ضيقة لن تتجاوزها أبدًا).

ولا شك أن المرء بطبعه ينظر إلى الضحية نظرة الشفقة والرحمة، ولا يعاملها معاملة الجلاد الظالم.