المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن في الدعوة إلى الله تعالىمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

المناظرات في السلوك الإنساني ظاهرة مرتبطة بحاجة الإنسان إلى اكتساب المعارف ، ورغبته في الدعوة إلى قناعاته والدفاع عنها ، فهي مرتبطة بالإنسان من حيث هو كائنٌ مُفكِّر .

واليوم تمتلىء ساحاتنا الثقافية بألوان من المناظرات - وقد نسميها الحوارات أو النقاشات أو المجادلات - ، وهي ظاهرة تدل على الانفتاح ، المضادِّ للعُزلَة والانغلاق ، وهذا (الانفتاح) إنما يكون ظاهرة إيجابية بشروط ، إذ قد تكلم العلماء في الموزانة بين (العزلة) و(الخُلْطة) ، وقالوا : إن (الخُلْطة) - أو (الانفتاح) – ليست أمرًا محمودًا مطلقًا وإنما يختلف ذلك باختلاف العوارض والأحوال .

إلا أنه مما ينبغي أن يقال : إن الانفتاح صار في وقتنا هذا - بعد تصاعد تأثير قنوات التواصل الاجتماعي – صار أمرًا مفروضًا أو أشبه بالمفروض ، بحيث إن سدَّه مطلقًا - لو فُرض أن السَّدَاد في سدِّه مطلقًا - أمرٌ عسيرٌ أو محالٌ على أصحاب القوة والولايات ، فكيف بمن لا يملك إلا قلمه ولسانه ؟ فصارت الحاجة ماسَّةً إلى ترشيد هذا الانفتاح . ومن جوانب هذا الترشيد " ترشيد المناظرات " التي تشغل حيزًا كبيرًا من هذا الفضاء .

والرؤية التي نطرحها في هذه المقالة تنطلق من جانبين :

الجانب الأول : يتعلق بترشيد المواقف من الآخرين .

والجانب الثاني : ترشيد النفس وإصلاحها .

الجانب الأول : ترشيد المواقف من الآخرين:

وأعني هنا بالآخرين : جميع الناس الذين تجدهم في تلك الساحات التي هي محل اهتمامك ، فإن كنت شرعيًّا فالآخرون هم الشرعيون من العلماء وطلبة العلم الذين يشغلون تلك الساحة ، وإن كنت مفكرًا أو مهتمًا بالفلسفة أو الآداب أو العلوم الإنسانية .. فالآخرون هم أولئك الذين يشغلون هذه الساحات .

الرؤية الرشيدة للآخرين ، هي الباب الوحيد الذي من خلاله يمكنك أن تشقَّ طريقك بينهم ، سواء أردت تحصيل علم أو إبطال باطل أو إرشاد جاهل أو قمع مبتدع صائل ، وإلا لم تفلح في تحصيل بُغيتك ، أو خرجت عن مهيع الحق والعدل ، أو أصابك كلا الأمرين .

والتصنيف الرشيد هو نقطة الانطلاق الأولى في رؤيتك الرشيدة للآخرين ، ولا تنفرنَّ من لفظ " التصنيف " لسوء استعمال له ، فببضع أسئلة تسأل بها نفسك يمكنك أن تعرف أنك أنت أيضًا تمتلك تصنيفًا لأولئك الناشطين في الساحات التي هي موضع اهتمامك ، فلو سألت نفسك : من هو أعلم الناس في الباب الفلاني ؟ من هو قدوتك في الفن الفلاني ؟ من هو أشد الناس ضررًا في نظرك في الطائفة الفلانية ؟ لوجدت أنك تمتلك أجوبة لهذه الأسئلة . إذًا ؛ فالتصنيف أمرٌ واقعٌ ولا يُتفلَّتُ منه بالهروب من اللفظ ، والذي ننشده هو ترشيد التصنيف لا إلغاؤه ، إذ إلغاؤه محال.

وترشيد عملية التصنيف يمكن بيانهُ في جملة واحدة : وهي أن تكون علمية التصنيف مُؤسَّسَةً على معايير علميّة منضبطة ، بحيث تصيب فيها الحق والاطِّراد وتبرأ من الباطل والتذبذب.

وسأنقد طريقة واحدة من طرق التصنيف التي أزعم أنها من أكثر الطرق رواجًا ، وبها يُمحَقُ الحقُّ والعلمُ والعدل ، وهي : أن يكون المعيار الوحيد في تصنيف الآخرين : موافقتهم لما أنا عليه ، فالناس إما مع طائفتي وحزبي وجماعتي ، أو ضدي وضد طائفتي وحزبي وجماعتي ، نعم ، قد تكون هناك تصنيفات أخرى لمن هو خارج طائفتي أو حزبي أو جماعتي لكن المقصود أن بؤرة هذه العملية التصنيفية هي : أنا أو طائفتي أو حزبي أو جماعتي ، وجميع المناظرات و(الحروب) التي أخوضها تدور في فلك هذه البؤرة ، فالانتصار هو أن أعلي رؤية حزبي أو أقنع مُناظري به ، فأنقله من العصبية لحزبه إلى العصبية لحزبي.  

إن هذه الطريقة في التصنيف كما هو مُشاهد لا تؤدي إلا لشيء واحد: وهو أن تتحول ساحات العلم والفكر والثقافة إلى تكتلات أشبه بالتكتلات السياسية ، وتسيسُ ساحات الفكر والعلم والثقافة والدعوة أمر في غاية الخطورة - وأعني بالتسيس هنا التعامل معها كما يتعامل مع عالم السياسة - إذ السياسة مبناها على تحصيل القوة والقدرة ، بمعنى أن كل تكتل سياسي يهدف إلى أن يكون الأقوى والأقدر ، وما سواه دونه ، أما في ساحات الفكر والعلم والدعوة والثقافة فالباعث على التحرك فيها سواء من الأفراد والجماعات هو المحبة والرغبة بالهدى.

وبعد هذا الإيماض في نقد هذه الطريقة السيئة الرائجة ، أخلص إلى عرض المعيار الذي أراه أقرب إلى الرشد في النظرة إلى الآخرين:

يُقسَّم الآخرون - بحسب التعريف آنف الذكر للآخرين - وفق هذه الرؤية إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول :  أهل المشورة والإفادة .

القسم الثاني : المدعوُّون .

القسم الثالث : الخصوم والمخالفون .

وهذا التقسيم مبني على الحاجة والمحبة ، فأهل المشورة والإفادة هم الذين تحتاج إلى ما عندهم من علم وفائدة ، وإن ناظرتهم ناظرتهم مناظرةَ مُشاورة ، والمدعوون هم الذين يحتاجون ما عندك من علم فترشدهم لإزالة ما لديهم من إشكالات ، والخصوم والمخالفون هم الذين يصولون بباطلهم فتتعرض لمناظرتهم وفق حاجة المسلمين ومصلحتهم .

فمحبة الاستفادة والعلم ، ومحبة إرشاد الناس وهدايتهم ، ومحبة قمع المُبطلِين ودحرهم ، كلها من الأمور التي يحبها الله ويرضاها إذا أخلصت فيها النيَّة وقصد وجهه سبحانه .

ثم إنك بحاجة إلى تصنيف تفصيلي للمنتمين لكل طبقة من هذه الطبقات ، فتحتاج إلى أن تتعرف إلى طبقات أهل المشورة والإفادة ، بمعرفة منازلهم وقدراتهم ومواطن التميز لدى كل منهم . ووسائل هذه المعرفة : الإكثارُ من النظر في كتب التراجم وكذلك المنثورات من رسائلَ ومقالاتٍ في تراجم المعاصرين ، والنظرُ في النتاج العلمي الذي يشمل الكتب والمؤلفات واللقاءات والندوات والمحاضرات .. إلخ .

وتحتاج أن تعرف طبقات المدعويِّن ، فتعرف اختلافهم في الاحتياجات والاستعدادت والقدرات ، فتقدِّم لهم الأهم على المهم ، وتجيبهم بالأجوبة الحكيمة الموافقة لقدراتهم . ومن وسائل هذه المعرفة : مخالطة الناس التي تورث التجربة والحكمة .

وتحتاج إلى أن تعرف طبقات المخالفين والخصوم ، فتكون على معرفة تفصيلية بمقالاتهم ودرجاتها ، ومعرفة تفصيلية بأعيانهم وتفاوتهم في العلم والقدرة ، لتعلم من تكون المصلحة في الاشتغال بمناظرته ، ومن تكون المصلحة في الإعراض عنه . ومن أفضل ما يفيد في ذلك – في باب الخصومات العقدية مثلا - : كتب المقالات التي ترسم خرائط لأهل الملل وأرباب المقالات ، ثم من احتاج لمناظرة طائفة معينة احتاج إلى معرفة تفصيلية بمقالاتها ونظرياتها ورجالها ، وذلك يتحصل من كتبهم .

ثم إنني أنبه بعد هذا إلى أن هذه القسمة الثلاثية ليست قسمة جامدة ، فقد تختلف باختلاف الأبواب والمسائل ، أي إن الرجل قد يكون في باب أو مسألة من أهل المشورة والإفادة ، وهو مخالف في باب آخر أو مسألة أخرى ، وقد يكون مشاورًا في باب مدعوًّا في باب آخر ، وهكذا .

إن هذه القسمة تعينك على معرفة غايتك من المناظرة ومن تناظر وكيف تناظر ، وتعينك في أن تعطي كل ذي قدر قدره ، وقد قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى :

(لا تمار من هو أعلم منك ، فإذا فعلت ذلك خزن عنك علمه ولم يضره ما قلت شيئًا) .

ونقل أبو بكر ابن فورك عن أبي الحسن الأشعري في مقالاته قوله (ص335):

(والواجب أن ترتّب كل من تناظره ، وتضع كل طبقة موضعها ، وتميّز بين مناظرة الأكفاء والأستاذين ، ومناظرة المبتدئين والمسترشدين ، وأن تتحرز من المتعنّت غاية التحرّز ، وتضايقه بكل ما يمكن من المضايقة ، وتلحق به كل ما يلحقه من شنعة ، وتساهل المسترشد ، وتصبر له ، وتمكّنه من الاستقصاء والتفهم).

وقال أبو المعالي الجويني في كتاب الكافية في الجدل (ص531) – وقد اعتمد فيه اعتمادًا ظاهرًا على كلام الأشعري - :

(وعليك بالمحافظة على قدرك وقدر خصمك وإنزال كل أحد في وجه كلامك معه درجته ومنزلته؛ فتميز بين النظير وبين المسترشد وبين الأستاذ ومن يصلح لك. ولا تناظر النظير مناظرة المبتدىء والمسترشد، ولا تناظر أستاذينك مناظرة الأكفاء والنظراء، بل تناظر كلا على حقه، وتحفظ كلا على رتبته).

الجانب الثاني : ترشيد النفس وإصلاحها :

أولا : إصلاح القدرة : والقدرة في باب المناظرات المقصود بها القدرة العلمية ، والقدرة العلمية هي قوة في النفس يتمكن المرء بها من النظر في الأدلة ، فليست القدرة العلمية بمقدار المعلومات التي يحملها الإنسان ، ولا عدد الحقول التي يمكنه أن يتكلم فيها ، فهذا لا يفيد في باب المناظرة بذاته .

ولا تكتمل قوة الإنسان العلمية إلا بأن يكون قادرًا على الجواب عن المعارضات على الحجة التي توصل إليها بنظرِه .

وقد وضع اليونان علم المنطق وآداب المناظرة لإصلاح هذه القوة ، ووضع علماء المسلمين علم أصول الفقه لإصلاح هذه القوة بالنسبة للأدلة الشرعية ، ومن أفضل ما يعين على تكوين هذه القوَّة وإصلاحها : إدمان النظر في الممارسات الاستدلالية للأئمة الكبار ، بحيث يتشبه بهم بقدر الإمكان ،  فعلى سبيل المثال : إن كنت عقديًّا فأكثر من القراءة لشيخ الإسلام ابن تيمية ومناظراته للمتكلمين والفلاسفة والمتصوفة في كتبه ، وإن كنت متفقِّها فأكثر من القراءة للإمام الشافعي في كتاب الأم ومناظراته لمخالفيه من أئمة الفقه ، وقد لوحظ بالمشاهدة أن قدرة المرء الاستدلالية تقوى وتضعف بحسب القدرة الاستدلالية لمن يقتدي به .

ومما ينبغي التنبيه عليه أن من تلقَّى مقالة من المقالات تقليدًا - مهما جلَّ قدرُ المقلَّد ، ومهما كانت المسألة جليلة ، ومهما كان المرء مقتنعًا لها - فإنه لا تجوز له المناظرة فيها ، لأنه في واقع الأمر لا يملك تلك القوة التي وصفناها في ما مضى ، وبدون ملكه لها لا يمكنه أن يتحرك في ساحات المناظرة .

ثم إن المرء محتاج لإصلاح قُدراته اللغوية التي يُعبِّر بها عن تلك المعاني التي حصلها بقوته العلمية ، حتى يوصل المعاني الجليلة بأبهى صورة ، وقد وُضِع علم البلاغة لهذه الغاية ، والقراءة في الممارسات البلاغية - التي تحويها كتب الأدب - مما يفيد في اكتساب هذه القوة .

إن عدم امتلاك المرء لمقياس يعرف به قُدراته العلمية ، يؤدي به إلى تقحُّم المهالك ، فكم من حامل حقٍّ ضعيف الحجة خاض مناظِرًا لمبطلٍ قويٍّ فما نصر الحق ولا أهله ، بل عاد وقد التبس الحق عليه ، ووقعت الشبهات في قلبه ، بمنزلة رجل ضعيف البنية والسلاح يعرض نفسه لقتال رجلٍ قويٍّ صلبً فعاد مثخنًا بالجراحات إن لم يعد مقتولًا ، ورحم الله امرءًا عرف قدر نفسه .   

ثانيًا: إصلاح الإرادة : وقد قدمت أن هذه الرؤية تنطلق من كون المحبة هي الباعث على المناظرات ، والمحبة لا تكون محمودة إلا إذا كانت موافقة لما يحبه الله تعالى ويرضاه ، فيدفع المرء إلى المناظرة محبة تحصيل الهدى ، ومحبة هداية الناس ، ومحبة قمع أقوال الصادِّين عن الهدى المضلِّين الناس عنه .

وهذه المحبة إذا كانت وفق مقصود الشارع ، ترتبت أولويات المرء وفق مقصود الشارع ولم يقدم عملا أهم من المناظرة عليها ، ولا قدم مناظرة على مناظرة أهم منها .

وليحذر المرء أشد الحذر أن يكون باعثه على المناظرة حب الرئاسة والعلو ، وهو باعث قوي في الإنسان ، يحتاج إلى تعاهد ومحاققة مع النفس ، والتأمل في أضراره ومفاسده مما يخمده ويضعفه ، ولم أجد أحدًا تكلم في أضرار ومفاسد حب الرئاسة مثل الفخر الرازي في (أقسام اللذَّات) .

وليكثر المرء من القراءة في كتب آداب الطلب كـ(جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البر ، والكتب التي تعرض لآدابَ المشاورة كـ(أدب الدنيا والدين) للماوردي ، والكتب التي تعنى بإدارة الاختلاف، فإن ذلك يعين على إصلاح الإرادة وتحقيق المقصود ، وبالله التوفيق .  

0 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً