إن القضايا المتصلة بالمسلمين الجدد قضايا كثيرة ومتنوعة، نذكر منها: طرق إعلان الإسلام ومدى اشتراط الإشهاد والنطق بالعربية، والتدرج في البلاغ وربطه بالإطاقة والتمكن من العمل، وخصوصية المسلمين الجدد في الفتوى والأحكام الشرعية، وضرورة حماية المسلمين الجدد من تيارات الغلو والتفريط، وجدلية العلاقة بين دائرتي الثقافة والدين.
وفي هذه الورقة نتناول قضية التدرج في دعوة المسلمين الجدد، مسلطين الضوء على أصلها الشرعي، وأساليب وتوصيات عملية تتعلق بها.
إن اعتبار التدرج في التكليف قد دلت عليه دلائل كثيرة، وفي ذلك تقول عائشة رضي الله عنها:
(إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا).
أخرجه البخاري (4993).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
(وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة أو المُرِيد للدخول فيها، سَهلتْ عليه، وكانت عاقبته غالبًا التزايُد منها، ومتى عسرت عليه أوشَك ألاَّ يدخل فيها، وإنْ دخَل أوشَكَ ألاَّ يدوم أو لا يستَحلِيها).
وقد نص الفقهاء على مسألة تعد أصلًا في موضوعنا، وهي قضية قبول الإسلام على الشرط الفاسد، فقد كان صلى الله عليه وسلم ربما قبل من بعض المسلمين الجدد ترك بعض الواجبات لمصلحة يراها، مراعاة منه للتدرج في الدعوة، فقد كان أحيانًا يتألف على الإسلام فيسامح بترك بعض حقوق الإسلام، فيقبل منهم الإسلام، فإذا دخلوا فيه رغبوا في الإسلام فقاموا بحقوقه وواجباته كلها، فعن وهب قال:
سألت جابرًا عن شأن ثقيف إذا بايعت؟ قال: اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقول: (سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا). أخرجه أبو داود برقم (3025).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (أسلم)، قال: أجدني كارهًا، قال: أسلم وإن كنت كارهًا. أخرجه أحمد برقم (11650).
وعن نصر بن عاصم عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين، فقبل ذلك منه. أخرجه أحمد (19776).
فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء ترك بعض الواجبات من باب التدرج معهم وتأليف قلوبهم، فربما لا يفقه بعض الكفار الدين الإسلامي حقيقة، أو يثقل عليه شيء منه، فيقبل منه الإسلام قبولًا مبدئيًا ترغيبًا له فيه، ثم يُرشَد ويُنصَح، ويؤمر بباقي الشرائع، وذلك طمعًا في أنه إذا دخل في الإسلام واستقر الإيمان في قلبه التزم بباقي الشرائع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن وفد ثقيف: (سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا).
قال الحافظ ابن رجب:
(ومن المعلوم بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل من كل من جاءه يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلمًا).
ثم قال بعد أن أورد الأحاديث آنفة الذكر:
(وأخذ الإمام أحمد بهذه الأحاديث، وقال: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها، واستدل أيضًا بأن حكيم بن حزام قال: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا أخر إلا قائمًا. قال أحمد: معناه أن يسجد من غير ركوع). (جامع العلوم والحكم) (ص240).
وما سبق إنما هو في الكافر الذي يريد أن يسلم، وأما لو جاءنا مسلم، وقال: سأكتفي بصلاتين فقط، فلا يقبل منه أبدًا.
وقد شَهِد تاريخ المسلمين صورًا مِن التدرج مع المسلِم الجديد، فمِن ذلك: ما جاء في ترجمة غازان بن آرغون سلطان التتار، وحفيد جنكيز خان، وكان على طريقة جدِّه الأعلى جنكيز خان - أنَّ جلوسه على تخت الملك كان سنة 693 هـ، فحَسَّن له نائبه نوروز الإسلام، فأسلَم سنة 694 هـ، ونثَر الذهب والفِضَّة واللؤلؤ على رؤوس الناس، وفَشَا بذلك الإسلامُ في التتار، وقيل له بعدَ إسلامه: إنَّ دين الإسلام يُحرِّم نكاحَ نساء الآباء، وقد كان استضاف نساءَ آبائه إلى نسائه، وكان أَحَبَّهُنَّ إليه بلغان خاتون، فَهَمَّ أن يرتدَّ عن الإسلام، فقال له بعضُ خواصِّه: إنَّ أباك كان كافرًا، ولم تكُن بلغان معه في عَقْد صحيح، إنما كان مسافِحًا بها، فاعقدْ أنتَ عليها، فإنَّها تَحِلُّ لك، ففعل، ولولا ذلك لارتدَّ عن الإسلام، واستُحْسِن ذلك مِن الذي أفتاه به لهذه المصلحة.
قال الشوكاني رحمه الله:
(بل هو حسَن، ولو كان تحتَه ألفُ امرأة على سِفاح، فإنَّ مثل هذا السلطان المتولِّي على أكثر بلاد الإسلام في إسلامه مِن المصلحة ما يُسوِّغ ما هو أكبرُ مِن ذلك، حيث يؤدِّي التحريج عليه، والمشْي معه على أمْر الحقِّ إلى ردَّته، فرحم اللهُ ذلك المفتيَ).
ينبغي أن يكون التعامل مع المسلم الجديد ضمن إطار من المنهجية العلمية والأكاديمية التي تتدرج في تعليمهم وتفقيههم بحيث تلبي احتياجاتهم النفسية، والفكرية، والروحية، والشرعية، وتتدرج معهم في القرآن الكريم تلاوة وحفظًا، وفي مسائل الفقه والتوحيد والمعاملات والأخلاق والآداب بما يتناسب مع أحوالهم واستعدادهم للتلقي والتطبيق.
وفي ما يأتي برنامج عملي مقترح:
المرحلة الأولى: بعد الإقرار والنطق بالشهادتين: بيان معنى توحيد الله تعالى، وشرح توحيد الألوهية بطريقة سهلة مقنعة، وآيات الله في الكون، وبيان فضل الطهارة والوضوء، وتعليمه عمليًا حتى يتقنه، وبيان فضل أداء الصلوات الخمس، وكيفية أدائها، وتعليم سورة الفاتحة، والإخلاص، وشرحها.
المرحلة الثانية: سورة الناس وشرحها، وأركان الإيمان، ونواقض الوضوء، وموجبات الغسل، وأحكام الطهارة والنجاسة.
المرحلة الثالثة: مراجعة للمرحلة الأولى والثانية، وسورة العصر والفلق مع الشرح، ومعجزة خلق الإنسان، واليوم الآخر، وصفة الجنة والنار.
المرحلة الرابعة: الحلال والحرام من الطعام والشراب، وأحكام الصلاة وسننها وآدابها، والسنن الرواتب، والعلاقات الأسرية في الإسلام، وصلة الرحم.
المرحلة الخامسة: أركان الإسلام، والأذكار بعد الصلاة، وأهم أحداث السيرة النبوية، وبعض معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وجيرانه، ومع المخالفين له في الدين.
المرحلة السادسة: بعض الآداب والأخلاق الإسلامية، ورحلة مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والحلال والحرام في المعاملات المالية، ومصادر التشريع الإسلامي.
المراجع:
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.