إن البشرية في حاجة قائمة وملحة إلى الدعوة في كل عصر ومصر، وتشتد الحاجة في هذا العصر الذي نعيشه إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإن تبليغ الدعوة للناس، واستقبال الراغبين في الدخول إلى الإسلام، ثم الاهتمام والرعاية بكل مسلم جديد، وتعليمه أمور دينه، كل هذا يجب أن يتم بطرق مدروسة بعيدًا عن الاجتهادات الفردية، كما يجب أن تجند كل الإمكانات وتذلل سائر العقبات في سبيل تبليغ الإسلام.
وفي ما يأتي نتناول قضايا منهجية وخطوات عملية حول تبليغ الدعوة لغير المسلمين.
ونعني بالجهة هنا الجهاز القائم على عملية الدعوة، سواء كان مركزًا دعويًا أو فردًا.
الأساس الأول: إرساء الاعتقاد الجازم بأن هداية الناس إلى الله هي من الله تعالى وبتوفيقه: واليقين بذلك يقي من أمرين: الأول: الكبر والعجب إذا نجح الداعية في دعوة أحد إلى الإسلام، والحزن واليأس إذا أخفق الداعية بعد بذل الجهد في إقناع المدعو في الدخول في الإسلام. وهذا الأساس أساس شرعي أصيل مستمد من قوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص:56]، وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [البقرة:272]، وقوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) [الرعد: 31].
الأساس الثاني: أساس المرجعية الشرعية في الدعوة إلى الله تعالى: فالداعية يعتمد في دعوته إلى الله تعالى على القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ إن الغايات الشريفة لا يتوصل لها بالوسائل الباطلة، فشرف الغاية لا يبيح تحصيلها بالوسائل غير الشرعية.
الأساس الثالث: أساس الاعتدال الفكري: فالداعية إلى الله تعالى يحمل منهجًا فكريًا وسطًا، وهو منهج أهل السنة والجماعة، وهو الذي يمثل الإسلام الحق، فلا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصر.
والاعتدال الفكري يحول دون تبني الداعية لأفكار خاطئة حول الدعوة، مثل تضييق مفهومها، وذلك بحصرها في دائرة تصحيح بعض الأخطاء السلوكية، أو حصر الخطاب في دائرة الوعظ العاطفي، وعدم التفريق بين محبة الخير للكافر، وبين محبته المحبة الدينية، والاعتقاد بأن البراءة من الكفار تقتضي الغلظة في التعامل، والشدة في القول، أو اعتقاد جواز إهانة الكفار المستأمنين، وظلمهم، وهضم حقوقهم، والتضييق عليهم، وإيذائهم.
الأساس الرابع: أساس الهم الدعوي: حتى تتحول مهنة الدعوة إلى الله تعالى من مجرد حرفة، أو مهنة، أو وظيفة إلى عقيدة وعبادة، وواجب والتزام، وهم ديني لا يفارق حامله لا زمانًا ولا مكانًا، وذلك لأجل أن تحقق الدعوة حينها أكبر قدر من الفاعلية في الواقع، ولتصبح عملية الدعوة صفة ملازمة للداعية.
الأساس الخامس: أساس الصفات اللازمة: لا بد من توفر الصفات للداعية الذي يدعو غير المسلمين. وهي صفات كثيرة، منها الإخلاص والصدق اللذان يحملان على بذل أقصى الجهد في الدعوة، والعلم وسعة الاطلاع اللذان يواجه بهما الداعية الشبهات إذا واجهته، وأن يكون قدوة حسنة، تصدق أقواله أفعاله، وأن يكون متواضعًا لين القول، حسن الخلق، واسع الصدر، ويراعي الأولويات والتدرج في الدعوة، فيبدأ بالأهم ثم المهم، ويصبر على تحمل المشاق، فطريق الدعوة ليس مفروشًا بالورود، وإنما هو محفوف بالمخاطر.
ونحن لا نريد الاستفاضة في ما يحسن بالداعية أن يتحلى به، إذ إن الكتب في فقه الدعوة وآدابها ووسائلها وأساليبها مما ينبغي أن يكون الداعية إلى الله على اطلاع جيد بها.
أولًا: كسر الحاجز النفسي: وهذا يحتاج أن يكون الداعية واسع الأفق، محلِّلا لما يجري حوله؛ فأحيانًا يكون الأثر الذي يؤثر في المدعو سلبًا، أو يؤثر في المدعو إيجابًا، يكون هذا الأثر يحتاج إلى كشف، خاصة من لا تعاشره دائمًا، فهذا كيف تؤثر عليه؟ لا بد أن يكون عندك رؤية متّسعة للمؤثرات التي تؤثر على هذا المدعو، وهذه الرؤية المتسعة ستستنتج منها الأسباب التي تصدّ هذا المدعو عن قبول الخير، وستستنتج منها الأسباب التي تجعل هذا المدعو يُقبل على الخير.
ومن المفاتيح والمداخل المؤثرة في كسب القلوب وشد اهتمام المدعو وجذب انتباهه:
ثانيًا: بیان محاسن الدین الإسلامي، وكماله، وجماله في عقائده، وعباداته، وآدابه: یقول سماحة الشیخ عبد العزیز بن باز رحمه الله: (المسلمون اليوم بل العالم كله في أشد الحاجة إلى بيان دين الله، وإظهار محاسنه، وبيان حقيقته، والله لو عرفه الناس اليوم، ولو عرفه العالم على حقيقته لدخلوا فيه أفواجًا اليوم، كما دخلوا فيه أفواجًا بعدما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة).
وتوضيح جمال الإسلام يكون ببيان عقيدة التوحيد الصافية، وأن الدين جاء لسعادة البشر، ورفع الضر عنهم، وجاء بالأخلاق الفاضلة، كالرحمة والرفق والتواضع والتسامح.
ثالثًا: معرفة السمات الاجتماعية والثقافية لغير المسلمين: يقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى: (كان الصحابة - رضي الله عنهم - أعلم أهل زمانهم بالتاريخ، وما يسمى الآن بتقويم البلدان وبالجغرافيا، ولذلك أقدموا على الفتوح ومحاربة الأمم، فانتصروا عليهم بالعلم لا بالجهل، فلو كانوا يجهلون مسالك بلادهم وطرقها ومواقع المياه وما يصلح موقعًا للقتال فيها لهلكوا، وكان الجهل أول أسباب هلاكهم، ومن قرأ ما حفظ من خطبهم وكتبهم التي كانوا يتراسلون بها، ومحاوراتهم في تدبير الأعمال يظهر له ذلك بأجلى بيان).
فالداعية مطالب بمعرفة السمات الاجتماعية والثقافية للمدعوين، فالسمات الاجتماعية مثل أعمارهم وأجناسهم، وعلاقاتهم الشخصية، وعلاقات العمل، وعلاقاتهم الأسرية، والزوجية، والسمات الثقافية مثل اللغة، والمستوى التعليمي، فالداعية مطالب بأن يكون له اطلاع على ذلك، ويمكن للاختصاصي الاجتماعي أن يقدم خدماته المهنية بشكل مباشر للجهاز القائم بعملية الدعوة الإسلامية، أو الداعية، وذلك بحكم تخصصه المهني في مجال الخدمة الاجتماعية، والتي تقوم على الدراسة العلمية للظواهر والمشكلات الاجتماعية بغرض المساعدة في حلها.
ومما يتصل بهذا: أن يكون للداعية اطلاع على علم مقارنة الأديان، فيكون عارفًا بالديانة النصرانية، فضلًا عن الديانات التي يكثُر أتباعُها من الجاليات العاملة في الدولة العربية، كالبوذية والهندوسية. فإن هذا العلم يفيد في معرفة التحديات والعقبات التي تواجه الداعية، فهذا البيروني لما عرض لسمات مجتمع الهند الثقافية، بين أثرها في دعوتهم، وذكر أيضًا من أسباب رفضهم للإسلام: النظام الطبقي في بلادهم، يقول: (إن مخالفتنا إياهم وتسويتنا بين الكافة إلا بالتقوى أعظم الحوائل بينهم وبين الإسلام).
رابعًا: الابتعاد عن التكلف في العرض: على الداعية الابتعاد عن العرض الفلسفي الكلامي الجدلي، وسلوك طريقة القرآن البينة البسيطة، والتي من خلالها تم استقطاب جميع شرائح المجتمع، كيف لا؟ والإسلام نفسه بأصوله الاعتقادية، وشعائره التعبدية، وأحكامه التشريعية واضحة بينة لجمهور المخاطبين عمومًا. وهي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يمر على أندية المشركين وتجمعاتهم يدعوهم بقوله: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا). رواه أحمد ( 3/492، 4/341 ). مع بيانه لخلو طريقته ودعوته من التكلف والتصنع: ( قلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ ص: 86 ].
على أن لا يكون ذلك على حساب البيان والتوضيح، قال تعالى: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) [ التوبة:6]. قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ( قد علم أن المراد أن يسمعه سمعاً يتمكن معه من فهم معناه؛ إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما يقوم بع عليه الحجة، ولو كان عربياً وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته وجب أن نبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له، ونبين له معناه فعلينا ذلك، وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالاً يوردونه على القرآن فإنه كان يجيبهم عنه ).
ومن هنا تأتي أهمية ترجمة معاني القرآن في دعوة غير المسلمين، فهي إحدى الوسائل المهمة للدعوة إلى الله تعالى، وهي من الحلول الرئيسة لمعالجة مشكلة اللغة، حيث يتعذر إيصال الدعوة لجميع فئات المدعوين المختلفين في الألسنة واللغات واللهجات، ولذا فالترجمة طريق لإيصال الدعوة وتبليغها لغير المسلمين، ولا شك أن نشر الدعوة عن طريق الترجمة يحتاج إلى جهود مصاحبة من الدعاة لشرح ما قد يشكل على غير المسلمين وتوضيحه.
بعد ما تقدم عرضه من قضايا منهجية تتعلق بدعوة غير المسلمين، ننتقل إلى بيان بعض الوسائل العملية لدعوتهم، وقد اخترنا نموذجًا لذلك العاملات المنزليات نظرًا لازدياد أعدادهن في المجتمع العربي، حيث أصبحن شريحة من شرائح المجتمع يجب الاهتمام بإصلاحها وعدم إهمالها، كما أنهن يعتبرن طريقًا لدعوة أسرهن وإصلاح مجتمعاتهن بعد انتقالهن إلى بلدانهن، وبالتالي يرتفع شأن المسلمين من جهة، ويحصل للداعية الأجر.
فمن تلك الوسائل الدعوية:
المراجع:
المستودع الدعوي الرقمي نسعى لتكوين أكبر مستودع معرفي ومعلوماتي للدعوة والدعاة حول العالم، من خلال توفير الملفات والتقارير والبيانات الخادمة للعاملين في الدعوة إلى الله.