مفهوم الموعظة الحسنة في الدعوة إلى الله تعالىمقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن الموعظة الحسنة من الأمور التي أمر الله تعالى بمراعاتها لدى الدعوة إليه، وجاء ذكرها مقرونًا بالأمر الدعوة بالحكمة، والأمر بالجدال بالتي هي أحسن، حيث قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، وسيكون حديثنا في التأمل في مفهومها في ضوء تقريرات أهل العلم وكلامهم.

أولًا: هل يمكن أن تكون الموعظة سيئة؟

إن الإمام قال ابن القيم قال معلقًا على هذه الآية: (أطلق الله تعالى الحكمة ولم يقيدها بوصف الحسنة، إذ كلها حسنة، ووصف الحسن لها ذاتي، وأما الموعظة فقيدها بوصف الإحسان، إذ ليس كل موعظة حسنة).

فالموعظة إذًا قد تكون حسنة وقد تكون سيئة، وحتى تتصف الموعظة بكونها حسنةً لا بد أن تكون مُحصلةً لمقصودها، لا بنقيضه ولا ضده، والمقصود من الموعظة الحسنة: إيصال المدعو إلى الوثوق بصدق ما يقدم له من وعد مؤجل بثواب عظيم جدًا على سعي يتحمل به مشقةً حالية، أو مخالفة شهوةٍ، أو هوى من رغائبها العاجلة ذات القيمة القليلة بالنسبة إلى الموعود به، والوثوق بصدق ما يُنذَر به من وعيد على المعصية، ومخالفة الأوامر والنواهي.

فإذا وثق بصدق الوعد والوعيد، ولم يكن فاقد الاعتدال النفسي بسبب ثورةٍ انفعالية غشت على بصيرته وأخلت بتوازنه، فإن قلبه سيلين، ومن طبيعة دوافعه الفطرية أن يتحرك فيه محور الطمع مُوجِّهًا إرادته مع دفع قوي للسعي الحثيث في السبيل الذي يحقق له المطموع به، من الخير العظيم الذي تضمنه الوعد، وأن يتحرك فيه محور الخوف موجِّهًا إرادته بدفع قوي للابتعاد بشدة عن السبل التي تجلب له ما يكره من عذاب أليم، أو خسارة، أو مضرة مخوف منها، ومن كل شر تضمنه الوعيد على المخالفة والعصيان وسلوك سبل الضلالة.

ثانيًا: ما الوسائل للوصول بالموعظة إلى صفة الحسن؟

بعد أن بينا الغاية والمقصود من الموعظة، والتي يتحقق بها وصفها بالحسن، لا بد أن أن نذكر الطرق والوسائل التي تتحقق بها تلك الغاية.

فمن الطرق والوسائل التي تتحقق بها صفة الحسن للموعظة:

  •  الترغيب والترهيب: إن النفس البشرية تتطلع دائمًا إلى ما يحقق لها السعادة والنجاح، ويكفل لها الفوز والفلاح، إنها تتطلع إلى ما يعود عليها بالنفع والمصلحة، وتخشى وتضيق دائمًا من الشقاء، ومن كل ما يعود عليها بالضرر والهم، والغم والنكد.

ومن هنا كان للترغيب والترهيب أثره البالغ في هداية البشرية إلى طريق الحق والخير والسعادة والفضيلة، وإبعادها عن طريق الباطل والشر والتعاسة والرذيلة، فهناك نفوس لا تستجيب إلا إذا رغبت وبين لها جزاء عملها، وهناك نفوس لا تستجيب إلا إذا رهبت وخوفت، وانطلاقًا من هذا المبدأ كانت الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة ترغب العباد في الخير والمعروف، وترهبهم من الشر والمنكر، وتحملهم على فعل الخيرات والصالحات، وترك المنكرات وعمل الموبقات، فالداعية الموفق الحكيم والواعظ الحصيف الفطن هو من يسير على نهج الكتاب والسنة في الترغيب والترهيب، يستخدم أيًا منهما في المكان الذي يراه مناسبًا، مراعيًا لنفسيات المخاطبين وظروفهم.

  • الوعظ عن طريق ضرب الأمثال: الأمثال وسيلة من الوسائل التي استخدمها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة في بيان حقائقهما ومعانيهما الخفية التي قررها ليهتدي بها من هداه الله إلى فوزه ونجاته في الدنيا والآخرة، ولضرب الأمثال فوائد جليلة كثيرة، منها تقرير الحقائق تقريرًا واضحًا جليًا، وتقريب المراد وتفهيم المعنى وإيصاله لذهن السامع، وتشويق السامع وترغيبه إلى الإيمان، إلى غير ذلك.
  • الوعظ عن طريق القصص: إن القصة طريقة من طرق البشارة والنذارة والهداية والإرشاد، والترغيب والترهيب، وهي إحدى الوسائل الناجحة والمؤثرة لعرض تعالم الدعوة سهة واضحة، فهي تجذب النفوس وتؤثر في القلوب. حيث تعرض الأمثلة والشواهد التاريخية التي جرت فيها سنة الله في الثواب والعقاب، من قصص الأمم السابقة، وما جرى لهم أو عليهم، كقصص الرسل السابقين وأقوامهم، وما جرى للذين آمنوا بهم من نصرة الله لهم، وما جرى على الذين كفروا وكذبوا رسل ربهم وأجرموا وأفسدوا في الأرض من عذاب مهلك لهم، ومن تدمير لمساكنهم، وبلدانهم، وممتلكاتهم.

وكتاب الله عز وجل وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الجم الوفير من قصص الأمم السالفة، وعلى حامل الرسالة أن يستفيد منها، ويحسن عرضها، وتدبر النصوص المشتملة عليها، وأن يستخرج ما فيها من دقائق، وعظات، وعبر.

  • الوعظ عن طريق طرح الأسئلة: إن الداعية هو العنصر الفعال في عملية التربية، فعلى قدر ما يحمل في عقله من علم وفكر، وما يحمل في قلبه من إيمان برسالته، ومحبة لدعوته، ورغبة في إيصال الخير، وما أوتي من موهبة وخبرة في حسن طريقة التعليم والتربية، يكون نجاحه وحسن تأثيره في قلوب الآخرين، وإن الوعظ عن طريق الحوار والاستجواب فيه تدريب للمدعو على التفكير، وتشجيعه على المناقشة، وتعويد على العطاء والمشاركة وإبداء الرأي، وإن أي تربية بدون استخدام هذه الوسيلة قد تعتبر فاشلة، لأنها تكون شخصًا ضعيف الشخصية، عديم التأثير. ومن خلال الوعظ بالحوار والمناقشة يتم تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة لدى المدعويين، والتركيز على بعض الحقائق لترسخ في النفوس، وتثبت في القلوب، وإيضاح بعض المفاهيم والمعاني الغامضة، وتوجيه السائل لما هو أهم بالنسبة له، وتربية المدعو على الأخلاق الفاضلة، والمعاني النبيلة، والآداب السامية، وتحذير المدعويين من الأمور التي تضر بهم وبمجتمعهم، وإعطاء بعض الكلمات المعنى الشرعي لها، ولذلك كله شواهد من السنة.
  • التذكير بنعم الله تعالى وآلائه: وهو منهج أصيل من مناهج الدعوة إلى الله تعالى قرره القرآن في غير ما آية، وهو منهج الأنبياء جميعًا من نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه يوجب الحياء من إظهار المخالفة، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
  • الوعظ عن طريق التذكير بسيرة السلف الصالح: والمقصود منه هو وضع نماذج من أعلى النماذج، ومن أروع الأمصلة، وقدوات من خير القدوات أمام أعين وأسماع المدعويين، لينهل منها كل منتهل، ويستفيد منها كل مستفيد، ويعتبر كل معتبر، فالقاسي القلب يجد نماذج تقربه من الله، والعاصي يتوب، والفاسق يرجع عن فسقه، والمبتلى يصبر، وكل واحد يأخذ ما يناسبه. وهو أيضًا يكون دافعًا للإنسان للاستزادة من أعمال الخير، ومحاولة محاكاة الصالحين ومماثلتهم. ولأئمتنا وعلمائنا الكتب الكثيرة في سير السلف الصالح، التي يوردون فيها أخبارهم، وأحوالهم، وحكاياتهم، فتجد فيها أحوالهم المتنوعة في تقوى الله والخوف منه، ومن عقابه، وتأثرهم وبكاؤهم عند قراءة القرآن، وأحوال النساء الصالحات، والحب للنبي صلى الله عليه وسلم، والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحوالهم عند الموت، وأخبارهم في الحرص والمسارعة إلى الخيرات، وحبهم للشهادة في سبيل الله، وأخبارهم في الزهد في الدنيا، وغير ذلك من المعاني المهمة.
  • استعمال وسائل الإعلام الحديثة: فظهور وسائل التواصُل والاتِّصال الحديثة في هذا العصر - كشبكة الإنترنت، والمُنتديات الإلكترونية، والمدوَّنات، وصفحات التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة والمعروفة - لا يَنبغي أن يتجاهله الواعظ والداعية، فإنها باب من أبواب إيصال الخير والنفع العميم والكثير، لمن لا يمكن الوصول إليهم بالوسائل العادية.

ثالثًا: مع من تكون الموعظة الحسنة؟

تحقيق النتائج المرجوة من الموعظة الحسنة لا بد لوقوعه من ملاقاة تلك الموعظة الحسنة للصنف المناسب من الناس.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وأما أن يجحده:

فأفضلها أن يعرف الحق ويعمل به.

والثاني: أن يعرفه لكن نفسه تخالفه، فلا توافقه على العمل به.

والثالث: من لا يعرفه، بل يعارضه.

  • فصاحب الحال الأول هو الذي يُدْعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به، فالنوع الأكمل من الناس من يعرف الحق، ويعمل به، فيُدعَون بالحكمة.
  • والثاني: من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه؛ فهذا يُوعَظ الموعظة الحسنة.

فهاتان هما الطريقان: الحكمة والموعظة، وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا، فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق، وإن عرفته، فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة، والى الحكمة، فلا بد من الدعوة بهذا وهذا.

  • وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، ولهذا قال: (وجادلهم)، فجعله فعلًا مأمورًا به، مع قوله: (ادعهم)، فأَمَرَه بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وأَمَرَه أن يجادل بالتي هي أحسن. وقال في الجدال: (بالتي هي أحسن) ولم يقل: (بالحسنة) كما قال في الموعظة، لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة، والموعظة لا تُدافَع كما يدافع المجادل، فما دام الرجل قابلًا للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعًا لم يحتج إلى مجادلة، فإذا مانع جُودِل بالتي هي أحسن). (الرد على المنطقيين) (ص468).

ويتحصل من هذا الكلام:

  1. أن الموعظة الحسنة تكون مع من يعرف الحق لكن تخالفه نفسه، فلا يعمل به.
  2. أن الموعظة الحسنة يحتاجها أكثر الناس، لطبيعتهم البشرية، لأن النفوس البشرية لها أهواء تدعو إلى مخالفة الحق.
  3. أن من نفعت معه الموعظة الحسنة لا يستعمل معه الجدال.

المراجع:

  1. الرد على المنطقيين: لشيخ الإسلام ابن تيمية.
  2. الحكمة والموعظة الحسنة وأثرهما في الدعوة إلى الله في ضوء الكتاب والسنة: رسالة علمية من جامعة أم القرى، أحمد المورعي.
  3. فقه الدعوة إلى الله وفقه النصح والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني.