الشجاعة والسماحة في سير العلماء والمصلحين (ابن تيمية نموذجًا)مقالات

المستودع الدعوي الرقمي

إن سير العلماء ما تزال منبعًا ثرًا ومنهلًا عذبًا يرتاده العطشى، فيرتوي منه ظمؤهم وتشفى غلتهم، وإنك لتجد في سيرهم أحوالًا عظيمة، جعلت من أولئك العظماء قدوات ونماذج في العلم، والعمل، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن الإسلام وجهاد أعدائه.

وإن النظر في سير أولئك العظماء لاستجلاء الخصال الحميدة التي تحَلَّوا بها، وإبرازها: أمر يجدر بالدعاة اليوم الانتباه إليه، لا الالتفات عنه، لتكون تلك الخصال مما يربون عليه أنفسهم والناس، ليتمكنوا من القيام بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أمرهم الله تعالى بها.

وفي مقالتنا هذه نستعرض خصلتين من تلكم الخصال، هما الشجاعة والسماحة، وذلك بالنظر في سيرة أحد أولئك العظماء، وهو شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي، المتوفى سنة 728هـ، رحمه الله تعالى.

حديث ابن تيمية عن أهمية السماحة والشجاعة:

تحدث ابن تيمية في مواطن كثيرة عن أهمية الشجاعة والسماحة، ومن أهم تلك المواطن ما كتبه في كتاب (الاستقامة)، وطبع ذلك الفصل أيضًا مفردًا بتحقيق صلاح المنجد بعنوان (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، كما ضمنه الشيخ ابن قاسم رحمه الله تعالى المجلدَ الثامن والعشرين من (مجموع الفتاوى).

ونستطيع أن نستخرج من كلام ابن تيمية في هذا الموضع عدة قواعد تتعلق بصفتي السماحة والشجاعة:

القاعدة الأولى: السماحة والشجاعة يحتاج إليها جميع بنو آدم:

يقرر ابن تيمية أن (الحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به، ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن). ويبني ابن تيمية على ذلك نتيجة، وهي أن مدح الشجاعة والسماحة حق لا مرية فيه، فإن (القضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقًا).

القاعدة الثانية: السماحة والشجاعة إنما تمدح إذا كانت في سبيل الله تعالى:

فقد جاء (الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيل الله تعالى دون ما ليس في سبيله)، كما في قوله تعالى : (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، وجاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله). أخرجه البخاري. ووجه ذلك أن العبادة هي (المقصود الذي خلق الخلق له) كما قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودًا عند الله، وهو الذي يبقى لصاحبه، وهذه الأعمال الصالحات، فالكافر والمنافق قد يقع منهما شيء من ذلك، غير أنه إذا لم يكن غايته ومقصده هو الله تعالى فلا فائدة لعمله، وأولئك تكون لهم (عاجلة لا عاقبة) – كما يقول ابن تيمية –  فإن العاقبة إنما تكون للمتقين.

فالناس في هذا بحسب علاقة السماحة والشجاعة بأعمالهم - بحسب ابن تيمية - أربعة أصناف:

  • (من يعمل لله بشجاعة وسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة .
  • ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة، فهذا ينتفع بذلك في الدنيا، وليس له في الآخرة من خلاق .
  • ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة، ولا سماحة، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك .
  • ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة).

القاعدة الثالثة: من فقد الشجاعة والسماحة تجري عليه سنة الاستبدال:

فقد ذكر ابن تيمية أنواعًا من الدلالات من الكتاب والسنة على مدح الشجاعة والسماحة إذا كانت في سبيل الله تعالى، ومنها: (أن ما في القرآن من الحض على الجهاد، والترغيب فيه، وذم الناكلين عنه والتاركين له : كله ذم للجبن، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك)، وهذا يدلك على أن فقدان الشجاعة والسماحة سبب للنكوص عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن نكص عن ذلك جرت عليه سنة الاستبدال، واستبدل الله به قوما آخرين.

القاعدة الرابعة: الشجاعة قوة القلب لا قوة البدن:

وفي هذا يقرر الشيخ أن (الشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد). فالشجاعة (ثباتُ القلب وقوَّتُه، وقوة الإقدام على العدو، والبعد عن الجزع والخوف) وهي صفة تتعلق بالقلب لا بالبدن (وإلا فالرجل قد يكون بدنه أقوى الأبدان، وهو من أقدر الناس على الضرب والطعن والرمي، وهو ضعيف القلب جبان، وهذا عاجز، وقد يكون الرجل يقتل بيده خلقًا كثيرًا، وإذا دهمته الأمور الكبار مالت عليه الأعداء، فيضعف عنهم أو يخاف)

ويقرر ابن تيمية أن ثبات القلب إنما يكون بالتحلي بالصبر، ويذكر هنا قول الحسن البصري: (ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب،  وجرعة صبر عند المصيبة). ثم يعقب بقوله : (وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم، وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم، والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن).

ولنعطف على ذكر هذه القواعد، مواقف عملية من سيرة ابن تيمية، يكون فيها تصديق القول بالفعل، والنظرية بالتطبيق.

نماذج من شجاعة ابن تيمية:

شارك الشيخ بنفسه وأصحابه في معركتي شقحب والكسروان، وأظهر شجاعة عظيمة، كُتِبت بكلمات من نورٍ على جبين التاريخ.

قال ابن فضل الله: (وحُكِي من شجاعته في مواقف الحرب نوبةَ شقحب، ونوبةَ كسروان مالم يُسمَع إلا عن صناديد الرجل، وأبطال القتال، وأحلاس الحرب، تارةً يُباشر القتال، وتارة يُحرِّضُ عليه) ([1]).

وقال أبو حفص البزار: (أخبر غير واحد أن الشيخ رضي الله عنه كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعًا أو رِقَّةً وجبانة شَجَّعَه وثبته وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة. وكان إذا ركب الخيل يتحنَّكُ، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويُكبِّر تكبيرًا أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوضَ رجل لا يخاف الموت) ([2]).

ويُوثِّقُ بعضُ الأمراء شجاعة الشيخ في تلك المعركة فيقول: (قال لي الشيخ يوم اللقاء، ونحن بمرج الصفر، وقد تراءى الجمعان: يا فلان الدين! أوقفني موقفَ الموت. فسُقته إلى مُقابلة العدوّ، وهم مُنحدرون كالسيل، تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي هذا موقف الموت، وهذا العدوُّ قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك وما تريد. فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرَّك شفتيه طويلا، ثم انبعث وأقدم على القتال، وأما أنا فخُيِّل إلي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة)([3]).

ومن نماذج شجاعة الشيخ أيضًا شجاعته في مخاطبة قازان ملك التتار. قال ابن فضل الله: (أخبرنا قاضي القضاة أبو العبَّاس ابن صَصْرى: أنَّهم لما حضروا مجلس غازان، قُدِّم لهم طعام فأكلوا منه، إلا ابن تيمية، فقيل له: لم لا تأكل؟

فقال: كيف آكلُ من طعامكم، وكلُّه مما نهبتم من أغنام الناس، وطبختُموه مما قطعتُم من أشجار الناس؟!ثم إن غازان طلب منه الدعاء، فقال في دعائه: اللهم إن كُنتَ تعلمُ أنه إنما قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا، وجهادًا في سبيلك فأن تؤيِّدَه وتنصُرَه، وإن كان للمُلك والدُّنيا والتَّكاثُر، فأن تفعَلَ به وتصنَعَ، يدعو عليه، وغازان يؤمّنُ على دعائه، ونحن نجمع ثيابنا خوفًا أن يُقتل فيطرطش بدمه.

ثم لما خرجنا قلنا له: كِدتَ تهلكنا معك، ونحن ما نصحبُك من هنا!

فقال: ولا أنا أصحبكم.

فانطلقنا عصبة، وتأخر في خاصة من معه، فتسامعت الحراس والأمراء، فأتوه من كل فجٍّ عميق، وصاروا يتلاحقون به ليتبرَّكُوا برؤيته، فأما هو فما وصل إلا في نحو ثلاثمائة فارس في ركابه، وأما نحن فخرج علينا جماعة، فشلحونا!!)([4]).

ومن نماذج شجاعة الشيخ أيضًا شجاعته في مخاطبة أمراء المسلمين وتشجيعه لهم لما رجعوا من الشام إلى مصر سنة 700هـ فقال لهم: (إن كُنتُم أعرضتُم عن الشام وحمايَتِه، أقمنَا له سُلطانًا يحوطُه، ويحميه، ويستغلُّه في زمن الأمن). وقال: (لو قُدِّر أنكم لستم حكام الشام، ولا ملوكه، واستنصركم أهلُه؛ وجب عليكم النَّصرُ، فكيف وأنتم حُكَّامُه وسلاطينه، وهم رعاياكم، وأنتم مسؤولون عنهم؟!)([5])، ويذكر ابن رجب أن الشيخ تلا عليهم آيات الجهاد، وقال: (إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله، والذب عنهم، فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم، ويستبدل بكم سواكم). قال ابن رجب: (وتلا قوله تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا) [التوبة: 39])، وبلغ ذلكَ الشيخَ تقيَّ الدينِ بنَ دقيق العيد - وكان هو القاضي حينئذٍ - فاستحسن ذلك، وأعجبه هذا الاستنباط، وتعجب من مواجهة الشيخ للسلطان بمثل هذا الكلام) ([6]).

نماذج من سماحة ابن تيمية:

بعد انعقاد مجلس القضاء الظالم لابن تيمية في محنته في مصر أمر ابن مخلوف بأخذ ابن تيمية وشقيقيه إلى السجن في رمضان سنة 705هـ يذكر ابن رجب حوارًا جرى بين ابن تيمية وأخيه يدلّ على مبلغ تسامحه فيقول: (ويقال: إن أخاه الشيخ شرف الدين ابتهل، ودعا الله عليهم في حال خروجهم، فمنعه الشيخ، وقال له: بل قل: اللهم هب لهم نورًا يهتدون به إلى الحق) ([7])، ويقول في وصف ابن مخلوف خصمه الذي بغى عليه في رسالته التي كتبها في السجن: (وأنا والله من أعظمِ الناس مُعاونةً على إطفاء كل شر في هذه القضية، وفي غيرها، وإقامة كل خير، وابنُ مخلوف لو عمل مهما عمل؛ والله ما أقدر على خيرٍ إلا وأعمَلُه معَه، ولا أُعينُ عليه عدوَّه قطُّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هذه نيتي وعزمي، مع علمي بجميع الأمور، فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين، ولو كُنتُ خارجًا لكنتُ أعلم بماذا أعاونه)([8])، ويقول أيضًا: (ليس غرضي في إيذاء أحد، ولا الانتقام منه، ولا مؤاخذته، وأنا عافٍ عمَّن ظلمني)([9])، ويقول أيضًا: (وأنا أبذل غايةَ ما وسعني من الإحسان، وتركِ الانتقام، وتأليفِ القُلُوب)([10])، ويقول أيضًا: (فإني إنما أنا لونٌ واحد، والله ما غششتُهُما (يعني المنبجي وابن مخلوف) قطُّ، وأنا مساعدٌ لهما على كل بِرٍّ وتقوى)([11])، ويقول بعد خروجه من السجن في رسالة له لبعض أصحابه: (وقد أظهر الله من نور الحق وبُرهانه، ما رد به إفك الكاذب وبهتانه، فلا أُحبُّ أن يُنتَصَر من أحدٍ بسبب كذبه عليّ، أو ظُلمه وعُدوانِه فإني قد أحللت كُلَّ مُسلم، وأنا أُحبّ الخيرَ لكُلِّ المُسلمين، وأريد بكُلِّ مؤمن من الخير ما أُحِبُّه لنفسي، والذين كذَبُوا وظلمُوا فهم في حلٍّ من جهتي، وأمَّا ما يتعلَّقُ بحقوق الله فإن تابوا تاب الله عليهم، وإلا فحكمُ الله نافذٌ فيهم)([12]). بل يتجاوز الشيخ مسألة العفو عنهم إلى شكرهم - لو صح ذلك -: (فلو كان الرجل مشكورًا على سوء عملِه؛ لكُنتُ أشكرُ كُلَّ من كان سببًا في هذه القضيَّة، لما ترتَّبَ عليه من خيرِ الدُّنيا والآخرة، لكن الله هو المشكور على حسن نعمه وآلائه وأياديه التي لا يُقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له)([13])، ويقول عن خصومه بعد أن أعيد للسجن مرةً أخرى: (وكم أجد عليهم، وما أدعو عليهم)([14]) ، ويقول بعد نهاية المحنة وبعد أن أفرج عنه: (من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، وأنا لا أنتصر لنفسي). وهو ما اعترف به ابن مخلوف بعد انقضاء المحنة إذ قال: (ما رأينا مثل ابن تيمية، حرضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدِرَ علينا فصفَح عنَّا، وحاجَج عنا)([15]).

فهكذا كان علماؤنا في شجاعتهم وسماحتهم، ونحن جديرون إذ حمَلْنَا هم الدعوة إلى الله تعالى أن نسير على نهجهم وأن نقتفي أثرهم.

___________________________________________

([1]) «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» (5/701).

([2]) «الأعلام العلية» (ص63).

([3]) «العُقُود الدُرِّيَّة» (ص229-230). نقله بعض أصحاب ابن تيمية عن هذا الأمير، وعنه ابن عبد الهادي، وقال هذا الصاحب في وصف هذا الأمير: (حاجب من الحُجَّاب الشاميين، أمير من أمرائهم، ذو دين متينٍ، وصدق لهجةٍ، معروف في الدولة).

([4]) «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» (5/669). 

([5]) «البداية والنهاية» (17/738).

([6]) «ذيل طبقات الحنابلة» (4/510).

([7]) «ذيل طبقات الحنابلة» (4/512).

([8]) (مجموع الفتاوى) (3/271).

([9]) (مجموع الفتاوى) (3/266).

([10]) (مجموع الفتاوى) (3/267).

([11]) (مجموع الفتاوى) (3/277).

([12]) (العقود الدرية) (ص326-327).

([13]) (العقود الدرية) (ص327).

([14]) رسالة إبراهيم الغياني ضمن (الجامع لسيرة ابن تيمية) (ص146-147). 

([15]) (البداية والنهاية) (18/94-95).

1 شخص قام بالإعجاب


شاهد أيضاً