جبل طارق (Gibraltar): هي منطقة حكم ذاتي تابعة للتاج البريطاني، تقع على الشاطئ الجنوبي لإسبانيا، ويُنسب هذا الجبل إلى القائد المسلم طارق بن زياد، فاتح الأندلس (50-101هـ)، الذي أسلم على يد الفاتح الكبير موسى بن نُصَير، والذي ينسب إليه أيضاً جبلٌ في المغرب يقابل جبل طارق، اسمه جبل موسى، وقد عُرف جبل طارق قبل العصر الإسلامي بجبل كالبي (mons calpe)، وهي تسمية فينيقية تعني: المغارة.
تبلغ مساحة هذه المنطقة 6.843 كلم2، وتشغل صخرة جبل طارق، المكونة من كتلة ضخمة من الحجر الجيري، معظمَ مساحة المنطقة، ويزيد عدد سكانها على 32.600 نسمة، ومنطقة هذا الجبل مأهولة بالسكان منذ زمن بعيد، ويعتبر الفينيقيون من أوائل الشعوب التي استوطنتها، تلاهم الرومان، ثم قبائل جرمانية، ثم انضمت إلى الدولة الإسلامية بعد الفتح في عام 92هـ / 711م، وبقي هذا الجبل وما حوله في أيدي المسلمين لأكثر من 700 سنة، حتى احتله الإسبان (تاج قشتالة) سنة 1462م، ثم ضُم إلى إسبانيا سنة 1501م، ثم احتله البريطانيون سنة 1704 أثناء الصراع الأوروبي الذي سمي بحرب الخلافة الإسبانية، وفي عام 1713 تنازلت إسبانيا عن سيادتها على جبل طارق لصالح بريطانيا بموجب معاهدة أوترخت، فهذا الجبل المتنازع عليه ظل إشكالية في التاريخ والجغرافيا نظراً لأهميته الإستراتيجية، فتاريخيًّا جرت حوله حروب وصراعات عديدة، وما تزال الخلافات قائمة حوله بين بريطانيا وإسبانيا، وجغرافيًّا هو نقطة انفصال القارة الأوروبية عن شمال إفريقيا، واليوم يحمل مواطنو هذه الدولة الجنسية البريطانية، ويرأسهم حاكم يعيِّنه التاج البريطاني، ويعتبر ملك بريطانيا ملكاً لهذه الدولة.
يرتكز اقتصاد جبل طارق على تقديم الخدمات للقاعدة العسكرية البريطانية، وعلى بناء السفن وترميمها، والسياحة، ويتم تأمين المواد الغذائية فيها عن طريق الاستيراد، وقد كان الجيش البريطاني المحرك الرئيس لاقتصادها، وفي عام 1984 كان يشكل دعمه 60% من إجمالي الدخل القومي، إلا أن حصته انخفضت بعد ذلك حتى وصلت إلى 7% فقط من إجمالي الدخل القومي، وذلك بسبب تشجيع أنشطة اقتصادية أخرى، ويعبر إلى هذه الدولة يوميًّا آلاف الإسبان من العمال والموظفين.
ويتبع مناخُ هذا الجبل مناخَ البحر الأبيض المتوسط شبه الاستوائي، فالصيف فيه دافئ وجاف بشكل عام، بينما الشتاء معتدل تتساقط فيه الأمطار.
وكما تعكس كهوف جبل طارق وما يتم اكتشافه فيها ثقافاتِ سكانها القدماء؛ كذلك تعكس حياة سكان جبل طارق اليوم أصولهم المتنوعة، البريطانية والإيطالية والمالطية والبرتغالية والمغربية والإسبانية وغيرها، وغالبية سكانه جبل طارقيون بريطانيون (أكثر من 80%)، يليهم البريطانيون فالمغاربة ثم الإسبان وغيرهم، واللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية للدولة، وهي تستخدم من قبل الحكومة وفي المدارس، ومعظم السكان المحليين ثنائيو اللغة، فهم يتحدثون بالإنجليزية وبالإسبانية أيضاً نظراً لقربهم من إسبانيا، وهناك سكان يتحدثون بلغاتهم الخاصة مثل العرب، واليهود السفارديم (من يهود شبه الجزيرة الإيبيرية)، ويتحدث سكان جبل طارق في كثير من الأحيان بلغة عامية فريدة من نوعها في العالم تعرف باليانيتو (Llanito تُنطق: Yanito) وهي شكل من أشكال الإسبانية الأندلسية يمزُج فيه المتحدثون بين الأندلسية الإسبانية والإنجليزية البريطانية ولغات أخرى مثل المالطية والبرتغالية ولغة سكان جنوة الإيطالية واللهجة الحَكِيتية الإسبانية (لهجة يهود السفارديم) المتأثرة بالعربية، وغيرها من اللغات! ولذلك يطلق سكان جبل طارق على أنفسهم اسم "يانيتوس"، ولمعنى كلمة Llanito عدة فرضيات، منها: "سكان الأراضي المسطحة"، و"اللغة البسيطة"؛ أي التي يتحدث بها السكان العاديون.
يتركز السكان بشكل أساسي في مدينة جبل طارق العاصمة، وتكثر هناك الشقق صغيرة المساحة في المباني متعددة الطوابق، وقد أنشئت جامعة جبل طارق عام 2015، ويسكن في هذه الدولة الكثير من العسكريين البريطانيين وعائلاتهم، والبقية من المدنيين المواطنين ذوي الأصول المتعددة، ويدين معظمهم سكان هذه الدولة بالنصرانية (أكثر من 80% من إجمالي السكان)، معظمهم روم كاثوليك، وجزء منهم يتبعون كنيسة إنجلترا الأنجليكانية وكنائس أخرى، وهناك نسب صغيرة من الهندوس واللادينيين واليهود وغيرهم، أما المسلمون فتصل نسبتهم في المصادر إلى 3.6% ثم 4% من إجمالي السكان، أي 1000 مسلم في عام 2009، ويبدو أن هذه النسبة لم تتغير كثيراً بعد ذلك، فقد وصلت في عام 2020 إلى 4.01% و1.273 مسلماً في تقرير World Muslim Population: 1950 – 2020، بل يشير هذا التقرير إلى أن نسبتهم قد تناقصت على مر السنين، فقد كانت نسبتهم 8.06% في عام 1960 ثم أصبحت 6.93% عام 1990، والمساجد والمراكز الإسلامية قليلة هناك.
ونقتطف بعض المعلومات التاريخية من استطلاع حول علاقة العرب بجبل طارق، أعده الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي، ونشر في مجلة القافلة (مايو- يونيو 1969م):
- حاول الخليفة الموحِّدي، عبد المؤمن بن علي أن يطلق اسماً جديداً على الجبل، أو المدينة التي ابتناها به، فأمر بتسميته بجبل الفتح، أو مدينة الفتح، إلا أن اسم جبل طارق ظل غالباً، وإن اقترن اسم جبل الفتح في المؤلفات العربية التالية للعهد الموحدي بشيء من الذيوع.
- شمل اسمُ جبل طارق المَضيق الذي تقع الصخرة على شواطئه الشمالية، فأُطلق عليه أيضاً اسم "مَضيق جبل طارق"، وقد كان العرب يسمونه "الزقاق" أو "المجاز" أو "معبرة هرقل" أو "معبَرة الأسد".
- جبل طارق ليس أول أرض أندلسية وطأتها أقدام الفاتحين العرب، كما يتبادر إلى الذهن، إذ كانت التجربة الأولى لهم في جزيرة طريف، وهذا الاسم هو أيضاً معزو إلى صاحب المحاولة الأولى نفسه "طريف ابن مالك"، وهو أيضاً من رجال البربر، قام بمحاولته سنة 91هـ (710م)، على رأس حملة إسلامية صغيرة جهزه بها موسى بن نُصير، بَيد أنها كانـت مجرد محاولة، وقد احتفظت الجزيرة الأندلسية باسم صاحب المحاولة، أما المحاولة الثانية فقد كانت فتحاً حقيقيًّا للبلاد الأندلسية، فلا غَروَ أنْ ذهب طارقٌ بشهرتها، فقد كان من ذوي العزم والتصميم.
- بعد أن أُنجز العمرانُ الضخم الذي أمر به الخليفة الموحدي عبدالمؤمن بن علي، عبر البحرَ من "سبتة" ليشهد ذلك العمران ويحفل به، وعلى أثره أُطلق اسم جديد على الجبل هو "جبل الفتح"، وقد كان احتفاله بإنجاز هذا العمل العظيم احتفالًا مشهوداً تبارى فيه الشعراء والخطباء.
وينظر للمزيد من الجوانب الأدبية والتاريخية المتعلقة بجبل طارق، مقال بعنوان: جبل طارق في العصر الإسلامي مقصد العلماء والأدباء/ أ. رشيد العفاقي، مجلة الفيصل، ع 314، وفيه يقول الكاتب: ويبدو أن طارق بن زياد أقام به بعض الوقت، وبنى به حصناً بقيت أسواره معروفة إلى عصر ابن جُزَي الغرناطي [عالم أندلسي]، وكانت تسمى في وقته بسُور العقرب، وظل جبل طارق منزلًا للجيوش العربية الواردة على الأندلس للجهاد، ويقول فيه: أما البداية الحقيقية لتعمير جبل طارق وتمتيعه بكل مرافق وخطط المدينة الإسلامية فكانت في العصر الموحِّدي، حين أمر الخليفة عبدالمؤمن بن علي الكومي ببناء مدينة كبرى في جبل طارق بتاريخ 9 ربيع الأول سنة 555هـ، ويسمى هذا العام بعام الأخماس.
وينظر أيضاً بحث بعنوان: جبل طارق نقطة الانطلاق لفتح الأندلس/ د. صالح محمد السنيدي، وفيه يقول عن قصة إحراق طارق بن زياد للسفن: مبدأ الحَرق والتغریق يتنافى مع التخریج الذي وصلنا إلیه؛ بأن هذه السفن مستأجرة أو مستعارة، بمعنى أن عملها مؤقت، وبعد أن أتمت مهمتها بنجاح عادت أدراجها، مُخلِیةً الموقع من أیة آثار أو بقایا لها، فعلى هذا الأساس لا یملك طارق أن یحرقها، ثم يقول: ولعل مَنشأ هذه القصة هو الخلاف حول أصل السفن، وعدم وجودها في المرسى الذي أفرغت فیه حمولتها، فربما ظنَّ من لا یعرف بأنها مؤجَّرة، وأن مهمتها قد انتهت؛ أن طارقاً عمل على إخفائها، وهنا تناقل الناسُ ذلك، وشاعت بینهم، ومنها نشأت أسطورة الحَرق، كما أن قائد الفتح، ولكي یجعل طریق الالتفاف حول الجبل سالكاً للعبور، أحرق ما فیه من حشائش وشُجيراتٍ تنامت بمثل هذا الموسم الذي هو فصل الربیع، فقد یكون ذلك أیضاً أوحى لأولئك بهذه الفكرة ورسخها، ومن ثم تناقلوها بینهم ووصلت لمن بعدهم.